رغم أن القضايا التي تشكّل أولويات قصوى للعراقيين والشطر الأكبر من العرب الآن أبسط بكثير من المفاهيم الكبرى التي جرى النقاش حولها من قبل النخب في سنوات وعقود سبقت تأسيس الدولة واستمرت بعدها، إلا أن الأسئلة والقضايا العامّة ترتبط في النهاية بتلك الاحتياجات وتنفصل عنها في أحيان أخرى. وببساطة شديدة: يؤدي الاختلاف على المبادئ الأساسية لدولة ما إلى زعزعة أساسات الكيان، وفي نهاية السلسلة الهرمية سيكون المواطنون بلا متطلبات الحياة الرئيسة كالماء والكهرباء. العراق ولبنان مثلًا.
بثقافة التطمطم [من طَمَطمَة] اعتادت النخب السياسية العراقية والعربية التعامل مع مشكلاتها الجذرية منها والسطحية
من الضروري – إن كان الهدفُ فهم أسباب الانهيارات المتتالية في عراق ما بعد 2003 – فهمُ الأجواء ونوعية المعارضين الذين كانوا معارضة ثم أصبحوا ساسة السلطة عقب إسقاط صدام حسين ونشوء نظام المحاصصة.
اقرأ/ي أيضًا: السلطة وأتباعها: وجهان لعملة واحدة
اقتصرت أغلبية النقاشات على الأحزاب الإسلامية العراقية لأسباب كثيرة منها الواقع الإقليمي، لكن الأساس هو سيطرتها على النظام. ونود هنا أن نلفت النظر إلى واقع من هم غير إسلاميين وربما ستتضمن هذه اللفتة توضيحًا لجزءٍ من أسباب عدم تمكنهم من مزاحمة الإسلاميين على الحكم.
تابعتُ سلسلة من لقاءات الإعلامي الكويتي عمار تقي مع عضو مجلس النواب العراقي فائق الشيخ علي، للمزيد من الاطلاع على أجواء المعارضة العراقية على لسان أحد أفرادها، ومن أكثر ما يدعو للاندهاش رواية سردها فائق بوصفه "ليبراليًا" كما يُعرّف نفسه، حول أسباب تفكك القوى غير الإسلامية في لندن، أو "المستقلين"، والمقصود بالمستقلين أغلب من هم غير إسلاميين.
يقول فائق إن ما أفشل تجمع المستقلين هو "عميل صدامي" اندس وسطهم، ولا غرابة هنا من السبب أو قدرة صدام على الاختراق؛ لكن الطريقة التي استخدمها "العميل" في ضرب المستقلين – يقول السيد فائق بثقة – هي طرحه سؤالين على أعضاء التجمع يتعلقان بموقف التجمع من أعداء العراق وقضية فلسطين!
كان السؤالان السبب الأوحد في شق صف التجمع الذي سيقود العراق إلى منافسة الولايات المتحدة والصين على قيادة العالم، لولا طرحهما من قبل العميل لا وفّقه الله.
علينا التأمل قليلًا، بأن تجمعًا يُفترض أن يشارك في انقلابة تاريخية وتحول مستقبلي سيرسم مصير أجيال من العراقيين، لم يُحدد موقفه من أعداء الدولة التي يُريد إسقاط النظام فيها والحلول محله، وكذلك موقفه من قضية غيرت خارطة المنطقة والعراق ولا زالت تفعل، وفوجئ من الأسئلة وسقط منهارًا.
وكعادة المتلبرلين العرب، قسّم النائب الحالي الجمعَ إلى متنورين وغير متنورين: متنورون ليس لهم موقف حتى من القوى الرجعية، ولا تهمهم فلسطين. وغير متنورين يقولون رأيهم بالدول الخارجية وبقضية العرب المركزية. ولكي لا نُقحم الآراء الشخصية بهاتين المسألتين سنتجاوز النقاش بهما، بما هما قضيتان.
بثقافة التطمطم [من طَمَطمَة] اعتادت النخب السياسية العراقية والعربية التعامل مع مشكلاتها الجذرية منها والسطحية. لا نقاش موضوعي يفضي إلى التغلّب على الاختلافات أو الاتفاق على التعايش معها تحت سقف من الأسس العليا المتفق عليها. فهدفُ بناء الدولة يتطلّب أجوبة على الأسئلة الكبرى، لكن الهدفَ كان إسقاط صدام، فجرى تهميش الأسئلة المتعلقة بإرث العراق ودوره التاريخي وأدوار الدول المحيطة في ماضيه وحاضره ومستقبله وقضية فلسطين المؤثر المباشر في مصير البلاد، لحساب هدف يُختصر بإسقاط النظام، ولا نعلم ما فائدة التجمع الذي لا يجمعه شيء إلا العداء للنظام، قبل أن يكشف "عميل النظام" عورته السياسية الثقافية بسؤالين.
ثقافة ترحيل الأزمات ليست بالمسألة البسيطة الوقتية، بل انسحبت للواقع السياسي بعد مجيء هذه المعارضة إلى العراق في 2003، لتكتشف أن ما كان يجمعها قضية واحدة، وحالما انتهت انفضح الخواء السياسي الاستراتيجي والنظرة القاصرة للدولة، وتفجّرت الخلافات على الأسئلة التي تجاهلتها المعارضة لأسباب اعتقدت أنها براغماتية، فكانت النتائج إنشاء نظام طائفي يَسهل اختراقه وقيادته من خارج الحدود، مزّق البلاد وأهدر ثرواتها ورهن سيادتها للآخرين.
الحال الذي كانت عليه معارضة صدام حسين غير الإسلامية مقارب لحال معارضة النظام الحالي من غير الإسلاميين
وفي شأن أقل من قيادة الدولة: واقع الأحزاب غير الإسلامية، يتضح من رواية النائب مدى ضعف الجامع الذي يجمع هذه القوى والشخصيات السياسية وسهولة تصدّع حركاتهم وفشل محاولاتهم لتنظيم أنفسهم. بمقابل ذلك، كانت "النحن" التي تجمع القوى الإسلامية أقوى وأكثر فعالية في رص الصفوف، وبالتالي استطاعت الدخول إلى العراق والاستحواذ على الحكم لأن الهدف كان أكثر وضوحًا. ورغم انقسام الإسلاميين فيما بينهم آنذاك وحاليًا، إلا أنهم لا زالوا مسيطرين على الحكم وقادرين على تنظيم القواعد الشعبية.
اقرأ/ي أيضًا: هل مات المستبد؟
الحال الذي كانت عليه معارضة صدام غير الإسلامية مقارب لحال معارضة النظام الحالي من غير الإسلاميين. لا يجمعهم سوى العداء للإسلاميين. لا يجيبون عن أسئلة الدولة. يستصغرون الإرث والتقاليد ويبتعدون عن الناس كلّما اقتربوا إليهم. ولعل غياب البديل "النموذج" أحد الأسباب التي تطيل من عمر النظام، أيَ نظام. وإن حدث تغيير سواء أكان جماهيريًا أو بتدخل خارجي، ستبقى القوى غير الإسلامية التي بعقلية السيد فائق ورفاقه منقسمة على كل شيء، خصوصًا مع زوال الهدف: المعركة ضد الأحزاب الإسلامية. ولربما ستكون تجربتهم - إن تمكنوا من الحكم - أسوأ من سابقيهم، وأكثر انشقاقًا.
وللمفارقة، يتحدث النائب في نفس السلسلة عن ضعف الليبراليين حاليًا لأن الشعور بالتفوق على أقرانهم يسيطر عليهم. وربما فاته ذكر أن "الأنا" هذه ليست المعرقل الوحيد لتكوين تنظيمات سياسية غير إسلامية، بل استصغار القضايا العليا للدولة والإرث والتقاليد العريقة، وكيف تؤثر مجتمعة على "النحن" وبالتالي على الدولة الوطنية وترسيخ الديمقراطية بثقافتها وآلياتها.
لعل الرواية التي تناولنها هنا ومقاربتها مع ما حدث بعدها يعطيان صورةً أوضح عن أسباب عدم بروز قادة غير إسلاميين حتى الآن رغم التغيرات الشعبية والسياسية السانحة.
اقرأ/ي أيضًا: