يتساءل العراقيون حول الظاهرة الصدرية: لماذا هذا الاتّباع الأعمى لآل الصدر لدرجة أنهم لم يعد لهم وجود وهم على أهبة الاستعداد للتضحية من أجلهم؟ يمكن لهذا السؤال أن يغرقنا في دوافع ذاتية تلعب دورًا في "فهم" الواقع؛ ذلك أن التوجهات الدنيوية "العَلمانية" – إن وجدت مثل هذه التصنيفات في العراق- تميل عادة إلى وضع كل الحركات الدينية في سلّة واحدة. وحينما نقول "في سلّة واحدة" لا نقصد إضفاء بعض الصواب السياسي لسلوك الصدريين السياسي، فالمشترك العام الذي تلتقي به الحركات الدينية، أيًّا كان توجهها المذهبي، هو غياب النظرية السياسية. والصدريون ليسوا استثناءً من هذه المعضلة المدوّخة لعموم الحركات الإسلامية.
لم يعتبر "آل الصدر" أهل الجنوب بأنهم "معدان" ولم ينظروا لهم بتعالي
على كل حال، فموضوع المقال يتعدى هذه الإشكالية باعتبارها لم تأتِ بجديد بخصوص تعرية الحركات الإسلامية. وإنما نحاول الإجابة على السؤال أعلاه، حيث انفرد الجمهور الصدري بعلاقة استثنائية مع آل الصدر للحد الذي يدفعهم للتضحية من أجلهم. يبدو لي أنّ الأمر يتعدى الولاءات التقليدية عند عموم الشيعة. ولهذه الظاهرة أكثر من مسوّغ لتسليط النظر عليها، ذلك أنّ تاريخ المرجعيات الشيعية لم يحظَ بهذا التفاني، باستثناء مفهوم التقليد الشائع في المذهب الشيعي الإمامي. فعادة لا يتحرك المقلدون، بهذا الشكل اللافت مثلما نشاهده عند الجمهور الصدري، إلا بلحظات مفصلية، كمفهوم الجهاد الدفاعي مثلًا، حيث يمتثل المقلدون للفتوى، وهذا ما حصل في ثورة العشرين، وفي لحظتنا المعاصرة في الدفاع عن بلد ضد الإرهاب الداعشي، إذ قامت مرجعية النجف بإصدار فتوى الجهاد الكفائي.
في حين يتعدى الجمهور الصدري كل هذه الخطوط التقليدية، بمعنى أنّهم مستعدون للتضحية من أجل آل الصدر سواء كان المرء من آل الصدر مجتهدًا أم لا. هذه الخصوصية تتعدى ظاهرة التقليد وشروطها المعلومة مثلما نوهنا قبل قليل. ومن وجهة نظري، أن عموم الجمهور الصدري ينحدر من المناطق الجنوبية. وأن الأعم الأغلب من هذا الجمهور ينتمي إلى الفئات الفقيرة، والتي كانت مُهَمّشَة طوال تاريخ العراق السياسي. هؤلاء أنفسهم من أعلنوا ولائهم المطلق لعبد الكريم قاسم. إذ من النادر أن تعثر على شريحة اجتماعية من أهل الجنوب تبغض عبد الكريم قاسم. وفي تصوري، أنّ الجنوبيين لم يحبوه لكونه منحهم دورًا سكنية فحسب، وإنما شعروا في حينها بوجودهم المُستَلَب. فشرع الناس ينسجوا الأساطير حول شخصية حول شخصيته، ومن أساطيرهم المشهورة أنهم شاهدوا صورته على وجه القمر. للمحبة أطوار غريبة ومنها أن نضع المحبوب في مصاف الآلهة. وهذه السمة تتمتع بحظ وافر في وجدان أهل العراق وخصوصًا الجنوبيين منهم.
المهم، أن آل الصدر انفردوا دون غيرهم بالنظر إلى أهل الجنوب نظرة خالية من التعالي، ولم يعتبروهم "معدان"، فلهذه الكلمة حضور لا فت عند غير أهل الجنوب. والمتتبع لهذه الكلمة يفهم جيدًا أن يطغى حضورها بالضبط.
مضافًا إلى الالتحام المباشر بين السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر وبينهم من جهة، وبينه وبين سلطة البعث من جهة أخرى. وكان هذا الحدث الأبرز واللافت في تاريخ المرجعيات الشيعية، إذ لم يشهد العراقيون مرجعًا يتكلم بلهجتهم العامية ويتمتع بكل هذا الحضور الكثيف، ذلك أنّ المرجعيات الشيعية السابقة اتخذت مسلك التقيّة وعدم الاصطدام مع السلطات الحاكمة، وكانت الحوزة الشيعية بمنأى عن كل صدام سياسي أو حراك اجتماعي، فجاء الشهيد الصدر فحطم كل هذه الأسوار، وعبر بالناس سياجات الخوف. إنه مشهد لم يألفوه الشيعة منذ زمن بعيد وهم يجتمعون بالآلاف لأداء صلاة الجمعة التي كانت مُعَطَلَة على طول تاريخ التشيع.
لقد أﺿفى لاحقًا حالة من الثقة والشعور بالوجود عند عموم مقلديه. شعر أهل الجنوب "الشروگية" لأول مرة في تاريخهم أنهم موضع اهتمام وأنهم ليسوا من الدرجة الثانية. لذلك هذه السؤال "ماذا استفادوا" سؤال غير دقيق، لأننا نتكلم هنا عن حقل الدين والإيمان الذي يتعدى كل مباهج الحياة ويتنكّر لكل الحقوق المدنية، إذا تعلّق الأمر بالعقيدة الدينية من جهة، وإضفاء نوع من احترام الذات والإحساس بوجودها المُستَلَب من جهة أخرى. سيكون سجّل التفضيلات والأولويات عند الجمهور الصدري (أهل الجنوب) ينحصر في نقطة مركزية: إننا نشعر بوجودنا مع الجماعة، ونتمتع بأهمية الذات، وتجاوزنا كل الانكسارات، وهذا يكفي، بل يعوض فقرنا المادي!
إن أهمية الجماعة والحفاظ على هويتها تتجاوز كل أهمية أخرى؛ هويتي الجماعية تساوي وجودي، وأنا بهويتي الفردية لا أساوي شيئًا على الإطلاق، وبالأخص حين يعوضها آل الصدر بكل هذا الاهتمام، فسأكون جنديًا مخلصًا لهم. هذا هو لسان حال عموم الجمهور الصدري. ولا يفرق لديهم سواء كان الرجل من آل الصدر مجتهدًا أم لا.
اعتقد أن اقتباسات غوستاف لوبون، الذي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، لا تسلط الضوء كثيرًا على هذه الظاهرة. نعم في حقل الدراسات الاجتماعية يختلف الأمر، وسيكون لوبون مادة تحليلية مهمة لفهم طبيعة الجماهير النفسية سواء كانوا دينيين أم دنيويين. ذلك أن الحماس الجماهيري الذي ينطلق من دوافع عقائدية، لا ينحصر في الحركات الدينية فحسب، بل يتعداه إلى عموم الحركات الدنيوية مع الاختلاف بالأهداف. غير أن البنية الذهنية والنفسية هي ذاتها لدى الفريقين.
إن رأسمال الذات المحطمة هو الانتماء للجماعة، أن رأسمال أهل الجنوب هو الانتماء لبيت الصدر (للأسباب التي ذكرناها). أما مسالة الجهل والنزعة العقائدية المتزمتة، والأغلبية غير المتعلمة، والعاطفة المفرطة، فهذه العلة كانت ولا زالت السمة البارزة عند عموم أهل الجنوب سواء كانوا ينتمون للدين أم لا.
يشعر أهل الجنوب حين انتموا لآل الصدر بوجودهم مع الجماعة وشعورهم بأهمية الذات
أعتقد أن تحليل هذه الظاهرة من الداخل، سيمنحنا مادة تحليلية مهمة لفهم الواقع العراقي. خصوصًا إذا تجاوزنا دوافعنا الذاتية، ذلك أن هذه الظاهرة تتسع باضطراد، وتلقي بظلالها على المشهد السياسي برمّته، وتتحكم بمستقبلنا السياسي.
