يصر الإطار التنسيقي ليس بوصفه خندقًا سياسيًا، إنما بوصفه خطابًا يتبناه بعض أتباعه ووسائل إعلامه على أوهام لا أحد يراها. يتضمن هذا الخطاب عند متابعته وتحليله لا سيما في الغرف الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي على إنكار تفشّي الفساد وإنكار سيطرة الأحزاب السياسية على مؤسسات الدولة وإنكار سوء الخدمات وإنكار تفشّي الفقر وإنكار تأثير السلاح المنفلت والتقليل من شأنها، وللأمانة؛ فإنّ هذا الإنكار لا يتم بشكل مطلق وواضح إنما بعبارة "مبالغ به" فأحد إعلاميي هذا الخطاب في حوار على منصة "كلاب هاوس" قال مرّة إنّ "ادعاءات وجود الفساد في العراق مبالغ بها" وأن "الإعمار يسير في العراق بوتيرة جيدة".
لا يندر أن يجد باحث اعترافات بتفشّي الفساد وسوء الوضع القائم من ممثلي الإطار التنسيقي وقادته
هذا التصريح الخطير الذي يصف عراقًا غير الذي نعيش فيه يتماهى مع تصريح سابق لزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي في ردّه على أعداد "الفضائيين" الذين اكتشفهم رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي الذين بلغت أعدادهم ما ينيف على خمسين ألفًا، إذ قال المالكي حينها إن "هذا العدد مبالغ به"، وليس ببعيد احتجاج زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم على أهزوجة لمهوال قال فيها "الخير العدنا مكوم [متراكم] والأحزاب تفرهد [تسرق] بيه"، إذ رفض الحكيم هذا الادعاء قائلاً إن "هذا الكلام غير صحيح"، وترك المكان في تعبير عن رفضه القاطع لما ورد في الأهزوجة.
كما لا يخفى على أي متابع الفتاوى التي صدرت من المراجع الدينية للإطار التنسيقي وعلى رأسهم المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، علي الخامنئي، وكذلك موقف المرجع الديني -المستقيل- آية الله كاظم الحائري التي أوضحت موقفهم من احتجاجات تشرين 2019 وكيفية التعامل معها، والتي قرأت على أنها تحريض على قمع المتظاهرين حينها ودعم واضح للنظام السياسي الذي تجسّد في دعوة الخامنئي إلى أن يكون الإصلاح ضمن مؤسسات الدولة، وفي إطار القوانين، في رفض واضح لمطالب المتظاهرين الثورية، كما تشير إلى دعمه استمرار الوضع القائم وهو ما يتماهى بوضوح مع خطاب الإطار التنسيقي.
لا يندر أن يجد باحث اعترافات بتفشّي الفساد وسوء الوضع القائم من ممثلي "الإطار التنسيقي" وقادته خلافًا لفرضية هذا المقال، إلا أنّ هذا يأتي ضمن سياق دغدغة مشاعر الجماهير والسير ضمن "مودة" رفض الفساد واستنكار سوء الخدمات دون أي نية لترجمة هذه المقولات على شكل برامج أو قرارات سياسية أو تغيير في المنهج السياسي.
يركّز خطاب الإطار التنسيقي إجمالًا على قضايا ليست حيوية وليست ضمن اهتمامات الغالبية الغالبة من المواطنين وغير ملموسة لهم، وهي المؤامرة التي تحاك ضد التشيّع، أو عودة حزب البعث المنحل، واستغلال الموقف السلبي لشيعة العراق من دول الخليج وتكريسه بادعاءات أنهم لا يريدون حكمًا شيعيًا في العراق، وضرورة الاستمرار على نظام المحاصصة الطائفية وهذه المحاور كلها لا تخبز رغيفًا لجائع ولا تبني منزلًا لمتشرد ولا تخلق فرصة عمل لعاطل.
ولا يُنقض هذا الخطاب بتصريحات الخصوم السياسيين للإطار التنسيقي، فالموضوع يؤخذ على أنه صراع سياسي ولا يؤخذ من المتظاهرين التشرينين لأنهم "جوكرية" و"أبناء سفارات" و"مخربين" لهذا بقي الإطار التنسيقي متمسكًا بمحاور خطابه متجاهلًا اليومي والمعاش للمواطنين.
لكن المحكمة الاتحادية بقرارها المتضمّن رد دعوى حل البرلمان قامت بتسفيه خطاب الإطار التنسيقي واصطفت -كما ينبغي لها- إلى جانب المحرومين أصحاب الحق في العيش وأصدرت حكمها التاريخي بتفشّي فساد الأحزاب وانتشار العنف وانتهاك الدستور وتدخّل المؤسسات الأمنية في السياسة، في إشارة ضمنية إلى الحشد الشعبي، وهو ما ينكره الإطار التنسيقي، واختلال النظام الإداري وغياب الحكم الرشيد وسيطرة المحاصصة الطائفية أو الحزبية، وانعدام المراقبة والمساءلة والمحاسبة وانعدام الشفافية في العمل الحكومي، وما إلى ذلك من معالم انتفاضة المحكمة الاتحادية.
أتصوّر قارئًا ماثلًا أمامي الآن يقول إنه ليس مطلوبًا من المحكمة الاتحادية أن تسمعنا بيانًا لا يتضمّن أي شيء سوى بديهيات الوضع العام في العراق وهو لشدة بديهيته أصبح مملًا، إنما المطلوب هو أصدار القرارات القضائية اللازمة لتهديم بنية هذا الخراب، وهذا صحيح إلى حدٍ ما فقط، لكنني لا أنظر إلى هذا البيان بوصفه خطابًا سياسيًا لمرشح انتخابي أو زعيم كتلة يحاول ابتلاع مجموعة من المتأثرين بخطاب الطهرانية هذا، لأنه قرار صادر من أعلى جهة قضائية في البلاد وهو بالتالي يمثّل عندي حكمًا قضائيًا بانتهاء صلاحية النظام السياسي، هذا الحكم يتماهى مع الحكم الشعبي الذي أصدره المتظاهرون في تشرين 2019 ويعززه، وبالتالي فإنّ خطاب الإطار التنسيقي بعد فقدانه شرعيته الشعبية فقد اليوم آخر ما يتبجح به وهو القضاء الذي أصدر اليوم حكم الفناء على ادعاءاته الزائفة وإنكاراته التي تسعى إلى استمرار مسلسل الخراب وشخّص بوضوح مواطن الداء في جسم النظام السياسي.
المحكمة الاتحادية انتفضت بإقرارها ما يرفضه أعداء الانتفاضة، وما دام الإطار التنسيقي ينكر مشكلة المحاصصة والفساد وسوء الخدمات ويتمسك بإحالة مصائب هذه البلاد الى أمريكا والخليج خلافًا لما اقرته هذه المحكمة، فإنّ الانتفاضة موجهة ضده بالدرجة الأولى فضلاً عن شركائهم الآخرين في خطاب من هذا النوع.
المحكمة الاتحادية بقرارها المتضمّن رد دعوى حل البرلمان قامت بتسفيه خطاب الإطار التنسيقي
ما يؤيد فرضيّة انتفاضة المحكمة الاتحادية هو إدانتها لبدعة "الثلث النيابي المعطل" الذي ابتدعته بقراراتها السابقة، وقالت بوضوح إنّ أعضاء مجلس النواب لا يمثلون أنفسهم أو كتلهم السياسية، إنما يمثلّون الشعب ووظيفتهم تطبيق مقتضيات الدستور وتشكيل السلطات الدستورية، وليس تعطيل مصالح الناس وتهديد سلامتهم وسلامة البلد، والأكثر طرافة من رفض تعطيل النواب للبرلمان هو عدم رفضها أو استنكارها للتعطيل الشعبي الذي فرضه المتظاهرون على مجلس النواب في إدانة واضحة للإطار التنسيقي.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذه القراءة تُعمل أدوات المنهج البنيوي في التحليل، ولا يهمها عندئذ من هي المحكمة الاتحادية وما موقفها من الكتل السياسية ولا يهمها مدى دستورية وشرعية المحكمة الاتحادية أو مدى حياديتها أو مهنيتها فسؤال المقال أساسًا هو تحليل مضامين الخطاب وليس شيئًا آخر.