21-نوفمبر-2019

المتظاهرون رفعوا شعار "نريد وطنًا" في ساحة التحرير والمحافظات (Getty)

لم يسلب هذا النظام السياسي خيرات الشعب فقط خلال 16 عامًا من الفشل ولا استقراره الأمني، بل ساهم بتذويب هويته الوطنية أيضًا، وهذا الأهم، عبر آلية التحاصص بين المكونات مرة بزرع الطائفية التي زعزعت الروح الوطنية بين أفراده، ومرات عديدة بصناعة الأحزاب التي تمثل الطوائف وتجعل من الشعب الواحد جماعات تتنافس فيما بينها بعيدًا عن الجامع المشترك.

في مسار تدمير الدولة العراقية عبر عملية تحاصص بين الأحزاب تستحوذ على كل شيء ولا تقدم شيئًا حُذفت جملة "صنع في العراق"

الخفافيش الكبار كانوا يمتصون دماء الشعب بأكمله، والمنتمون لهم كانوا يتنازعون فيما بينهم، ولم يتوقف الأمر هنا، فقد ساد النشاز في الأوساط الثقافية وارتفع صوت الإعلام المزيف الذي يعبّر عن الأحزاب التي تتكلّم باسم الجماعات الطائفية، وتتولى عمليات غسيل الأدمغة وصناعة التضليل.

اقرأ/ي أيضًا: دروس من ساحة التحرير

وفي مسار تدمير الدولة العراقية عبر عملية تحاصص بين الأحزاب تستحوذ على كل شيء ولا تقدم شيئًا حُذفت جملة "صنع في العراق"، وتخيلوا أن شعبًا غنيًا بالنخيل يستورد التمر من بلاد أخرى، أنه شعب يسبح بحقول النفط ويستورد الطاقة الكهربائية، نهران عظيمان فيه ويعطش، وهكذا يستمر التراجع.

مآس كثيرة مرت على هذه البلاد، استبداد واستعمار وحروب، إلى أن جاءت الانتفاضة التي خرجت في مطلع تشرين الأول/أكتوبر والتي جوبهت منذ اليوم الأول بسفك الدماء. كان الشباب حينها يفكرون بالهجرة، وكانوا يشتمون بلادهم، والذين كانوا يتنازعون فيما بينهم، استيقظوا حاملين حلمهم باسترجاع الوطن، هم لا يريدون وطنًا يُكتب على هوياتهم الشخصية فقط "فلان الفلاني عراقي الجنسية"، يريدون وطنًا صالحًا للعيش، يصححون فيه المسار ويعيدون إليه مكانته العظيمة دون الدماء والفقر والانحطاط والتراجع المستمر، أنهم يريدون إعادة هيبة الوطن في نفوسهم وبين العالم.

اليوم، يعي الشاب العراقي جيدًا، من هو عدوه، ويعرف ما يريد استرجاعه، هؤلاء الشباب يصنعون هوية وطنية موحدة، منذ مكوثهم في ساحة التحرير، الساحة التي أصبحت مدينة مصغرة، فعند دخول الساحة من شارع السعدون والجميع يرفع علمًا واحدًا، علم بثلاثة ألوان تتوسطه جملة (الله أكبر).

ورغم أنهم لم يشعروا بدفء الوطن منذ زمن طويل، لكنهم وجدوا الدفء الآن بين المحتجين الذين لا علاقة بينهم سوى العراق وهم يرددون شعارات تشبه دعاء الأمهات.

في جولاتنا بالاحتجاج، نتوجه من السعدون إلى نفق الذي يؤدي إلى الخلاني، النفق الذي أصبح معلمًا سياحيًا، هناك شباب موهوبون لم يجدوا فرصة لاستغلال طاقاتهم فعبروا عن سلميتهم واحتجاجهم بالفن، حتى أن بعض الجداريات التي رُسمت تستحق الكثير من الجوائز العالمية، لكنهم فضلوا أن يكون الوطن جائزتهم الأثمن.

من بعيد.. ننظر للمطعم التركي، فنرى رقصات جديدة تجعل الضحك والبكاء يمتزجان معًا، رقصات شباب يلاحقون الخوف في الليل ويمسكون الشمس في الظهيرة

ثم تأخذنا أقدامنا لحديقة الأمة تحت نصب الحرية، فنسمع أصوات موحدة تطالب بالحقوق نفسها، حيث لا يوجد نشاز بينهم، وكأن الأصوات تخرج من حنجرة واحدة تردّد "نريد وطن".

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. فرصة لتقييم الذات

ننظر من بعيد للمطعم التركي، فنرى رقصات جديدة تجعل الضحك والبكاء يمتزجان معًا، رقصات شباب يلاحقون الخوف في الليل ويمسكون الشمس في الظهيرة.

نخرج من ساحة التحرير ونحن نمسك الأعداد الجديدة من الجرائد التي توزع في مدينتنا المصغرة، نمسك تاريخنا بكفوف بيضاء، هؤلاء الشباب صنعوا التاريخ وكتبوه، وأنتم أيها الأحزاب والساسة، ماذا صنعتم؟ وماذا سيكتب عنكم التاريخ؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

انتفاضة تشرين.. جيل اليوم في مواجهة النظام الطائفي

الثابت والمتحوّل في احتجاجاتنا: دروس للمشرق العربي