26-يونيو-2020

يُفترَض بالكاظمي وفريقه أن يكفّوا عن كونهم صحفيين (فيسبوك)

لا شك أن الاقتصاد هو أحدُ أهم التحديات التي تواجهها الحكومة الجديدة رفقة الملفات الأربعة التي سبق وتحدثنا عنها بوصفها تحديات رئيسة يُفترض أن يجد الكاظمي حلولًا لها، والتي يستحيل تفكيكها بمجرد وصوله إلى رأس السلطة.

تتطلب الإجراءات الإصلاحية والتقشفية متابعة صفقات الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة، ولا تحتاج حكومة الكاظمي للعودة سنوات إلى الوراء

لناحية الأفعال لا الأقوال، أقدم الكاظمي على الاستقطاع من رواتب المتقاعدين وجوبهت خطوته برفض شعبي ليعود بقراره فورًا، وفي الأثناء، وجه بمعالجة رواتب محتجزي رفحاء قبل أن يُصدر أوامر بإلغاء الرواتب المزدوجة منها. ثم سار كعادة نظام المحاصصة في الأزمات الاقتصادية على نهج الاقتراض وصوّت مجلس النواب على مشروع القانون.

اقرأ/ي أيضًا: العراقيون بين رهاب كورونا ومخاوف الجوع

في ملف رواتب "الرفحاويين" والسجناء السياسيين الكثير من اللا عدالة التي شُرّعت من أجل (العدالة الانتقالية) وما يحمله من شكوك بوجود "فضائيين" إضافةً إلى فقرة ازدواج الرواتب ومنحها لأفراد الأسرة كاملةً، وهو ملفٌ يُثير حفيظة الكثير من العراقيين وبحاجة إلى معالجة حقًا. لكن ذلك لا ينفي أهمية السؤال عن أهمية الملف في ظل أزمة عميقة تفاقمت مع تدهور أسعار النفط وجائحة كورونا وقبلهما الفساد الضارب في عمق الدولة. والأهمية تتحدد بما يوفره القرار من أموال لمعالجة الأزمة.

لم نحصل على إحصائية رسمية دقيقة بمجموع رواتب محتجزي رفحاء، وتكاد محركات البحث تخلو من الأرقام الإجمالية الدقيقة، وتدور حوارات البرامج والأخبار والتقارير حول قيمة ما يتسلمه الفرد "الرفحاوي" ومجموع ما تتسلمه بعض العائلات مجتمعة. وهي الفكرة التي نريد تسليط الضوء عليها. الأرقام الإجمالية التي تتناقلها وسائل الإعلام عن مسؤولين ومصادر تبدأ بنحو مئة مليون دولار ولا تنتهي بالمليار سنويًا، تكلف رواتب السجناء السياسيين بما فيهم محتجزي رفحاء مجتمعين، خزينة الدولة. وسنعتمد متوسط الأرقام  المتضاربة [نصف مليار دولار]، أي ما يقارب الأربعين مليون دولار شهريًا، في حديثنا.

بطبيعة الحال، فأن قرار الكاظمي خصّ "مزدوجي الرواتب" والمقيمين في الخارج، ما يعني أن القرار ـ في حال نُفِذ ـ سيُبقي جزءًا من النصف مليار دولار (إن صح التقدير) في خزينة حكومته. وقبل أن نتساءل عن قانونية إيقاف الرواتب من عدمه مع الأخذ بعين الاعتبار تأكيدات المزيد من خبراء القانون بشرعية تلك الرواتب، نعود للسؤال الأول: ما أهمية هذا المبلغ بالمقارنة والنسب؟

نعرف، ويعرف الكاظمي، وكل المراقبين يعرفون من أين تؤكل الكتف. لم يعد خافيًا ما يحدث في المنافذ الحدودية من سرقة وفساد علني لا يكتفي بهدر المال بل بتعريض صحة المواطنين وصناعة الدولة وزراعتها وعملتها وغير ذلك إلى الخطر الحقيقي.

يدّعي أحد النواب أن منفذًا حدوديًا واحدًا تصل وارادته إلى 199 مليار دينار شهريًا، تتسلم الحكومة منها فقط 9 مليارات فيما يُقسّم الرقم الباقي بين محافظين وشيوخ عشائر وأحزاب. والمبلغ هذا ـ المسروق من الدولة ـ يقارب ما يتقاضاه الرفحاويون شهريًا. ويقول أحد المكلفين السابقين بتشكيل الحكومة إن ملياري دولار فقط تدخل خزينة الدولة من جميع المنافذ الحدودية التي تصل وارداتها إلى عشرة مليارات دولار، ويتحدث آخرون عن ضعف هذا المبلغ.

تستطيع الحكومة فقط من خلال قطع يد الميليشيات والعصابات المسيطرة على المنافذ الحدودية، توفير ضعف المبلغ الذي تسعى لاقتراضه من البنوك والدول الأجنبية

ثم عقار الدولة، الموصوفة إيرادته بـ "الذهب الذي لا يقل عن النفط" وما فيه من ملفات فساد تَهدر المليارات. ومزاد بيع العملة الذي وفّر 500 مليون دولار في شهر ونصف الشهر بإجراء واحد اتخذته حكومة حيدر العبادي بحسب أحد وزرائها. وهو مبلغ يعادل (تقريبًا) مجموع رواتب رفحاء سنويًا، المشمولين وغير المشمولين بقرار الكاظمي.

اقرأ/ي أيضًا: معضلة النظام العراقي وأزماته.. انتهت حلول الأرض؟

كذلك، تتطلب الإجراءات الإصلاحية والتقشفية متابعة صفقات الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة، ولا تحتاج حكومة الكاظمي للعودة سنوات إلى الوراء، فالعقود المبرمة في الفترة ما بعد استقالة عادل عبد المهدي وما قبل تكليف الكاظمي بلغت 400 مليون دولار قيمة عقد واحد في حكومة لتصريف المهام اليومية، في "فرهود" وزاري كما يصف أحدهم.

يُمكن مقارنة هذه الأرقام مع الملياري دولار التي حصلت عليهم الحكومة من الواردات النفطية لشهر آيار/مايو الماضي.

هذه الأمثلة التي أُختيرت من تصريحات علنية لنواب ومسؤولين ـ كي لا يأخذ كلامنا طابعًا شعبيًا ـ تستهدف لفت النظر إلى حجم الأموال المهدورة والمسروقة بالمقارنة مع الخطوة التي يصارع ويتوعد الكاظمي بتحقيقها معتكزًا على امتعاض الناس من رواتب الرفحاويين، والنقاش الذي يدور حول قيمة ما يتقاضاه الفرد/العائلة وليس إجمالي المبلغ الذي يبدو ضئيلًا بالقياسات النسبية. وعلى أية حال، فإن رواتب الناس الممتعضين ومصادر دخلهم بالعموم مهددةٌ إذا لم تُعالج المشاكل الرئيسة التي تستنزف ثروات البلاد.

نقول ذلك بعد توجه الحكومة والبرلمان رسميًا نحو الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل الإنفاق العام والعجز المالي الذي تواجهه الدولة. لقد بلغ الدَّين الخارجي قرابة 25 مليار دولار بالإضافة إلى 36 مليار دولار كتعويضات حرب الخليج. وبلغ الدَّين الداخلي أكثر من 36 مليار دولار. ومن خلال مشروع قانون الاقتراض أتاح مجلس النواب للحكومة أن ترفع ديون العراق الداخلية والخارجية إلى 80 مليار دولار من غير الديون الخاصة بتبعات النظام السابق. وبحسب الأرقام التي أوردناها، تستطيع الحكومة فقط من خلال قطع يد الميليشيات والعصابات المسيطرة على المنافذ الحدودية، توفير ضعف المبلغ الذي تسعى لاقتراضه من البنوك والدول الأجنبية!

صحيحٌ أن الحديث عن خطوات الحكومة بشكل نهائي ما يزال مبكرًا؛ لكن البدايات مهمة. إن البدء بالملفات الاقتصادية الكبرى يُتيح للحكومة النجاح بمعالجة الصغرى، وليس العكس. الشرطيُ الذي يُحاسب المواطن البسيط دون المتنفذين لن يفرض القانون. ثم أن ذلك يتعلق بموضوع الاقتراض ذاته، فكثيرٌ من الخبراء الاقتصاديين يرون أن لا حل إلا بالاقتراض، ويعلّق آخرون الآمال على القرض الخارجي المخصص للمشاريع الاستثمارية والتنموية. والحق، أن استخدام المبالغ المقترضة في إنشاء المشاريع الصناعية والزراعية وما يتعلق بإنتاج الغاز سيخفف من عبء الاقتراض في المستقبل، ولكن؛ مرة أخرى، من دون معالجة آفة الفساد ستذهب المليارات الخمسة المخصصة للاسثتمار إلى شركات من مرروا وصوتوا على مشروع القانون.

إن معالجة قوانين العدالة الانتقالية المشرّعة بعد الاحتلال بـ"قرارات" عادلة خطوة صحيحة تصب في مسار الحد من هدر الأموال بالامتيازات المجحفة بحق الطبقات الفقيرة؛ لكن حكومةً تصل إلى السلطة بعد انتفاضة جماهيرية، وتواجه تلك التحديات الاقتصادية والصحية والسياسية، بحاجة إلى عدالة انتقالية ثانية تُصلح ما أفسده الانتقاليون الأوائل.

أوقف رئيس مجلس الوزراء رواتب مزدوجة لا تسمن من جوع، ومن دون قانون، ثم ماذا؟ .. تحدث عن 300 مليون دولار فقط هو المبلغ المتبقي في الخزينة التي تسلمها من سلفه عبد المهدي، ثم ماذا؟ مليار دولار قيمة مشروع لم يُنجز، ثم ماذا؟ ــ إن مصارحة الناس بالحقائق مهمة؛ لكن الأذهان العراقية امتلئت بأرقام الأموال المنهوبة التي تُتناقل عبر وسائل الإعلام.

إن حكومةً تصل إلى السلطة بعد انتفاضة جماهيرية، وتواجه تلك التحديات الاقتصادية، بحاجة إلى عدالة انتقالية ثانية تُصلح ما أفسده الانتقاليون الأوائل

من صلب مهنة الصحافة أن تسأل وتستقصي الحقائق، ويتعين على الحكومة أن تعمل وتجتهد للإصلاح، ويجب ألّا يتبادلا الأدوار. يُفترَض بالكاظمي وفريقه أن يكفّوا عن كونهم صحفيين إذا ما أرادوا "تنفيذ" ما يقولون.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كورونا العراق: أزمات الاقتصاد وحلول "حافة الهاوية"

كورونا العراق: دروس المواطنة والدين وحكم الكونكريت