29-ديسمبر-2019

كل المرشحين الذين قدمهم تحالف البناء لرئاسة الوزراء رُفعت صورهم على المطعم التركي وعليها إشارات الرفض (AFP)

رفضت النسبة الأكبر من المتظاهرين تقديم أي مرشح لرئاسة الوزراء ليكون خلفًا للمستقيل عادل عبد المهدي، رغم مطالبات زعيم التيار الصدري وتحالف سائرون باختيار مرشح من ساحات الاحتجاج. وأقدم المتظاهرون بدلًا من ذلك على طرح مواصفات اشتراطية لمرشح رئاسة الوزراء، كان أهمها أن يكون مستقلًا غير تابع للأحزاب والكتل السياسية.

أعادت استقالة عبد المهدي عُقدة الكتلة الأكبر إلى المشهد مجددًا، لكنها هذه المرة بوجود عامل المعتصمين، الذين يوجهون ضرباتهم المتتالية لمرشحي البناء

بالمقابل، طرحت كتلة البناء، ونواتها الأساس (تحالف الفتح) العديد من الأسماء، بالخفاء والعلن، كمحمد شياع السوداني، وقصي السهيل، وأسعد العيداني، لكن المتظاهرين رفضوهم تباعًا، وعلقّوا صورهم مرفوقة بعلامة "X" تعبيرًا عن رفضهم لمرشحي الكتلة التي ادّعت أنها الأكبر، كما امتنع رئيس الجمهورية برهم صالح عن تكليف مرشحيهم.

اقرأ/ي أيضًا: البناء يسعى إلى "الانتقام".. هل يمكن إقالة برهم صالح؟

بدأ صالح بتسريب مخاطبات قادة تحالف البناء، العامري والمالكي والحلبوسي والخنجر وغيرهم، التي تطالبه بتكليف قصي السهيل، ما فجّر موجة غضب من الشارع تجاه تحالف البناء أجبرت قادة في تحالف القوى (السني) على بيان رفضهم لترشيح السهيل.

ثم أقدم على الخطوة الأصعب والأخطر: رفض ترشيح العيداني وإبداء استعداده للاستقالة في رسالة لمجلس النواب، أغاضت أطراف كتلة البناء، تزامنت مع أنباء توجهه إلى محافظة السليمانية.

على الجانب الآخر، طرح مقرب من زعيم التيار الصدري ثلاثة أسماء قال إنهم مرشحو ساحات الاحتجاجات، سرعان ما سحب ذلك في اليوم التالي وأوصى تحالف سائرون باتخاذ خيار المعارضة البرلمانية.

يُعيد هذا المشهد الأذهان إلى أيار/مايو 2018، وبدء الصراع المرير بين تحالفي سائرون والفتح على الكتلة الأكبر، وتشكيل تحالفي الإصلاح والبناء، الذي انتهى وجودهما العملي والإعلامي باتفاق بين سائرون والفتح على تكليف "طرف ثالث"، وهو عادل عبد المهدي، بتشكيل الحكومة، بمبدأ: لا منّا ولا منكم.

أعادت استقالة عبد المهدي عُقدة الكتلة الأكبر إلى المشهد مجددًا، هذه المرة بوجود عامل المعتصمين، الذين يوجهون ضرباتهم المتتالية لمرشحي البناء. لكن المسألة رغم التعقيدات الجديدة ، هي ذاتها أزمة ما بعد أيار/مايو 2018 بتعقيداتها؛ الداخلية المتمثلة بصراع التيار الصدري مع الجناح السياسي لفصائل الحشد الشعبي، وكذلك استغلال الفرصة من قبل القوى السنية والكردية في طلب المكاسب من الجبهتين الشيعيتين مقابل دعم إحداهما على حساب الأخرى، والخارجية، المتمثلة بصراع الإرادات الإيرانية والأمريكية المتداخلة مع المعادلات العراقية.

 تحالف الإصلاح هو الأبعد عن الإيرانيين، والبناء هو الأقرب، والصراع على النفوذ يتداخل مع السياسة الأمريكية الجديدة في المنطقة

يبقى المشهد ذاته. تحالف الإصلاح هو الأبعد عن الإيرانيين، والبناء هو الأقرب، والصراع على النفوذ يتداخل مع السياسة الأمريكية الجديدة في المنطقة، واندفاع الدول العربية، المجاورة خصوصًا، للاعتراف والتفاعل مع العملية السياسية العراقية الجديدة.

اقرأ/ي أيضًا: بعد اتهامات له بـ"الجبن".. هل تعرّض برهم صالح لتهديدات بالقتل؟

إلى جانب مسألة النفوذ الخارجي، ينضم عامل "ملفات الفساد"، ليشكلان المادة الأكبر للصراع على رئيس الوزراء القادم على الرغم من الإجماع  الإعلامي  على ولايته المؤقتة التي تمهّد للانتخابات المبكرة.

ثلاثة خيارات مطروحة على الطاولة، تستدعي صراع أيار/مايو 2018، ويُضاف له ما استجد في انتفاضة تشرين:

  •  مرشح سائرون المستقل
  •  مرشح البناء الحزبي
  •  المستقل غير الجدلي

يطرح التيار الصدري تحت وفوق الطاولة أسماء مرشحين قبالة ما يطرحهم البناء. والمُلاحَظ أن جُلّ من طُرِحوا بوصفهم خيارات الساحة، لديهم عداء أو خلاف مع الجبهة الشيعية في تحالف البناء، وأحيانًا مع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي شخصيًا، كمحمد توفيق علاوي، ورحيم العكَيلي، وعبد الوهاب الساعدي، ومصطفى الكاظمي، وفائق الشيخ علي. ذلك مقابل ترشيح البناء بذات طريقة التيار الصدري لقصي السهيل، المنشق من التيار، ورائد جوحي، أول من أصدر مذكرة قبض بحق مقتدى الصدر، وشياع السوداني، المقرب من المالكي.

يتنازع الطرفان على الخيارين المطروحين، رئيس وزراء "مستقل" يدعمه (أو يقدمه) تحالف سائرون، وهو ما قد يُتيح لها المجال لاستغلال دعم الشارع والصدر والمرجعية لينفذ ضربات معينة للبناء خلال الفترة الانتقالية.

أما الخيار الثاني فأن يُقدم البناء مرشحه (المرفوض من الشارع بالتجربة)، وتقبله الكتل السياسية، ويتجه الصدر إلى المعارضة، وهي اللحظة التي رفضتها الجهبة الإيرانية في بداية تشكيل الحكومة المستقيلة.

لقد تم جر المتظاهرين إلى "معركة الأسماء" رغم إصرارهم على المواصفات، عبر الصراع السياسي بين جناح سائرون، والجناح المقابل، تحالف البناء

لقد تم جر المتظاهرين إلى "معركة الأسماء" رغم إصرارهم على المواصفات، عبر الصراع السياسي بين جناح سائرون، والجناح المقابل. ويبقى التساؤل مرة أخرى، إن كان الرئيس مؤقتًا، فلماذا الصراع على "الاسم" دون المهام؟

اقرأ/ي أيضًا: حيدر سعيد: ثورة تشرين هي الأولى في تاريخ العراق

ليس السؤال استفهاميًا، برأينا، إنه صراع لفرض الرأي، يندفع به تحالف سائرون بقوة الشارع المُساند للأسماء المستقلة، والرافض للمتحزبين، بينما يندفع تحالف الفتح بفعل الضغط الأمريكي على إيران، الذي يُفسره الإيرانيون وحلفاؤهم في الداخل على أنه المحرك لسحب بساط رئاسة الوزراء من تحت أقدامهم، تمهيدًا لتعامل أكبر مع الحشد الشعبي والفصائل المسلحة.

لا تنظر إيران وحلفاؤها للقضية على أنها مسألة داخلية واجبة الحل، بل صراع مع الولايات المتحدة يُحرّم فيه إهدار النقاط بسهولة، بعد الفوز بثلاثية نظيفة في مباراة تنصيب الرئاسات الثلاث، على حد قول قائد الحرس الثوري، خاصةً بعد أن سقط العمود الأهم في المثلث، عادل عبد المهدي، وأفلت العمود الآخر، رئيس الجمهورية، من القبضة الإيرانية، حتى هذه اللحظة.

 أما المتظاهرون فَلهم أولوياتهم ومخاوفهم، الملقاة على عاتق الرئيس الجديد، كمحاسبة المتسببين بقتل المتظاهرين، وضبط السلاح المنفلت وتحييده عن التأثير السياسي، وإجراء الانتخابات المبكرة من عدمه، وتبدو "شخصية" الرئيس القادم مؤثرة إلى حد كبير في إنجاز تلك المهام.

خلقت معادلة آيار 2018 صراعات كادت أن تؤدي إلى حرب أهلية، وكان التخوف من تلك الحرب عاملًا أساسيًا في اجتراح مخرج من الأطراف المتنازعة، باختيار عبد المهدي بمنطق: لا منّا ولا منكم. وفي ظل اعتصام المتظاهرين في ساحات الوسط والجنوب، تتعقد المعادلة أكثر، وتتزايد فُرص الصدام الأهلي، والفوضى، سواء المختلقة، أو الناجمة عن انسداد أفق الحلول بين المتصارعين.

هُنا، يأتي اقتراح المرجعية الدينية بحكومة "غير جدلية" ليُمثّل التسوية التي بالإمكان إنجازها للخروج من مأزق الاقتتال الأهلي، ونرى ملامح الرئيس "غير الجدلي" الذي تقترحه المرجعية هي الاستقلال بشرط الـ"لا معاداة". بمعنى أن يكون مستقلًا يُرضي المتظاهرين والتيار الصدري، كما لا يكون اسمه مستفزًا لتحالف الفتح، أي من غير أصحاب السوابق العدائية تجاههم، أو من ذوي "نوايا التصفية" مع الحرس الشيعي القديم، والفصائل المسلحة وممثليها السياسيين.

رُفض الخيار الثاني من المتظاهرين وسائرون، ولا زال الخيار الأول لا يحظى بمقبولية الطرف الآخر، لذلك، نرى من الضروري إعداد العُدة من قبل المتظاهرين، للسيناريو الأخير، وطرح ورقتهم على الطاولة، لكي لا تُسحق أصواتهم في فوضى الصراع السياسي.

لا بد من أن يقتحم المتظاهرون الجدران السياسية، بخطةٍ عملية، لحماية "الحالة الثورية" التي خلقتها ساحات الاحتجاج منذ مطلع تشرين الأول

إن "التسوية" السياسية برئيسٍ غير جدلي تُمثّل سلاحًا ذا حدين، فهي مخرج من الأزمة التي قد تطول وتُجهد المعتصمين وتستنزف طاقاتهم، كما أنها تحمل في مضمونها "إمكانية" لتسويف مطالب المتظاهرين. وفي هذه الحالة، لا بد من أن يقتحم المتظاهرون الجدران السياسية، بخطةٍ عملية، لحماية "الحالة الثورية" التي خلقتها ساحات الاحتجاج منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

المحتجون يستبقون "الخميس المقلق" بخطوات تصعيدية: من سيحدّد مصير العيداني؟

"فخ" ترشيح الرئيس.. ديمقراطية الرفض ومخاطر الفرض