21-سبتمبر-2021

عن فرضية "التغيير من الداخل" (Getty)

تشهد الفعاليات والحوارات السياسية في العراق نقاشات مستمرة عن جدوى مقاطعة الانتخابات، والعمل على إقناع المقاطعين بالمشاركة استنادًا لفرضية "التغيير من الداخل"، والدخول بـ"العمل الديمقراطي"، بل أن النقاش أحيانًا يعبر إلى رمي اللوم على المقاطعين وأنهم يتحملون جزءًا من الخراب، لكن النقاش يتجاهل الأسباب الجذرية التي أدّت إلى هذه النقمة على الحفلة البنفسجية، وصارت في نظر العديد من العراقيين تؤدي إلى نتيجة واحدة؛ تبادل السلطة بين المسيطرين على مركز القوة داخل النظام السياسي منذ 18 عامًا.

كان يفترض أن تحدث انتفاضة تشرين "هزّة" داخل النظام السياسي ويؤدي الحال إلى إصلاحات جذرية، أو حتى أقل جذريةً لاحتواء الغضب وإنقاذ الدولة من العطب

أظهرت انتخابات 2018 حديث المقاطعة والمشاركة إلى العلن، وبعدها، جاءت نسبة المشاركة صادمة (44.52 بالمئة) وكانت النسبة الأعلى منذ سقوط نظام صدام حسين، لكن النظام السياسي لم يأخذ هذه النسبة على محمل الجد ويستشعر الخطر، وأوصل عادل عبد المهدي إلى السلطة باتفاق بين سائرون والفتح، وما حدث من احتجاجات غاضبة نهاية 2019 يعود بشكل كبير إلى مخرجات هذه العملية الانتخابية، وهو الأمر الذي يتجاهله من يقول إن "المقاطعة لا جدوى منها".

اقرأ/ي أيضًا: من طائفية إلى مناطقية: شعبوية الانتخابات العراقية

طوال عقدين، لم يغادر النظام السياسي في العراق أزمة الإنجاز ليحافظ على كيانه من الغضب الداخلي، والذي يشكّل بدوره البيئة السهلة للاختراق من قبل أي عدو خارجي أو أزمة غير محسوبة، كما حصل مع دخول تنظيم "داعش"، عام 2014. لقد تناثرت الرتب العسكرية في الشوارع وحصلت أزمة نزوح لم يحصل مثيلها في التاريخ العراقي المعاصر، فضلًا عن شعور بعض "المواطنين" بأن "داعش" في بدايته من الممكن أن ينقذهم مما كان تفعله الحكومة بقيادة رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي.

اللافت، وبمعزل عن الفاعل الخارجي، وخلال تجارب هذا النظام السياسي أنه لم يستفد من كل الأزمات التي من الممكن أن تفعل "هزّة داخلية" بطبيعة الحال، بدءًا من الحرب الأهلية، مرورًا بحرب "داعش"، وليس انتهاءً بتظاهرات تشرين نهاية 2019. في كل أزمة يحاول وعلى طريقة القبيلة في إنهاء النزاعات أن يعود من جديد لتقاسم المناصب أو المصالح، لتعود المأساة في ثوب جديد، ويرجع معها "شيوخ النظام" للحل الوقتي، وهكذا.

عدم الاستفادة من الأخطاء المستمرة، ومحاولة التكيّف والتعايش مع نظام لم ينجح في إكساء شارع، أنتج هذا الغضب الذي ظل ينمو إلى أن انفجرت انتفاضة تشرين، والتي أخرجت وجه النظام الحقيقي في التعامل مع المواطنين، قنّاصات ومقذوفات سامة ورصاص حي وإعدامات ميدانية وكواتم في الشوارع، إلى أن وصلنا إلى 21 ألف بين قتيل وجريح، وهو ما يعبّر عن "ديمقراطية النظام العراقي"، ويثبت أن الانتخابات وحدها لا تنتج بالضرورة نظامًا ديمقراطيًا.  

لست ممن يميل إلى أن انتفاضة تشرين، كان مطلبها الأساسي هو "انتخابات مبكرة"، وبالتالي، حصول الانتخابات يعني استجابة لصراخ الناس في شوارع العراق وينتهي كل شيء. نعم، طالب متظاهرون في قانون انتخابي عادل، وتم الالتفاف على القانون من كتلة برلمانية معيّنة، وطالب متظاهرون بانتخابات مبكرة لكن بشرطها وشروطها، وصار النظام السياسي يشعر أن واجبه الوحيد هو الوصول إلى إجراء انتخابات مبكّرة شكلية، في وقت كانت الشوارع تشهد مجزرة بحق النشطاء من تفجير بيوت وترهيب وتهجير خارج المحافظات، كل هذا كان يتمّ تجاهله على مذبح الانتخابات المبكّرة التي أزيحت كل المطالب الأساسية "من أجلها".

وفي العودة إلى عدم الاستفادة من الأخطاء، كان يفترض أن تحدث انتفاضة تشرين "هزّة" داخل النظام السياسي، ويؤدي الحال إلى إصلاحات جذرية، أو حتى أقل جذرية لاحتواء الغضب وإنقاذ الدولة من العطب، لكن بقي الحال كما هو عليه. أرادت الكتل السياسية المهيمنة على النظام أن تزيح حالة التظاهر بأي شكل من الأشكال، وأوصلت رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى السلطة لإنهاء الاعتصام وإعادة الناس للتطبيع مع النظام، واليوم أيضًا، تريد أن تحدث الانتخابات المبكرة، وتنتهي بالمسرحية نفسها التي يشهدها العراق كل أربع سنوات، ويتم اختزال حالة الاحتجاج التي لم تكن الانتخابات المبكرة غايتها حين نزفت الدماء وقدمت الشباب، كذلك، دون أن يرى المواطن الغاضب إجابة عملية وواقعية على السؤال: ما الذي تغيّر بعد انتفاضة تشرين والأرواح التي أزهقت خلالها؟

يشكل العراق اليوم واحدًا من الأمثلة البارزة عن ما يسمى في العلوم السياسية بـ"التسلطية التنافسية" أو "التسلطية الانتخابية" إذ أن الانتخابات معروفة النتائج مسبقًا

يتعامل النظام السياسي والكثير من المهتمين بالشأن السياسي مع الانتخابات بأنها هدف بحد ذاتها، وليست وسيلة لتنظيم عمل مؤسسات الحكم من خلال الاستناد إلى مبدأ حكم القانون، وتمكين المواطنين من المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية، وتنظيم علاقة مؤسسات الحكم بالجماهير على أساس رابطة المواطنة، لكن الواقع الفعلي في العراق، أن النظام يتأرجح بين أشكال ثيوقراطية ووراثية، وينتج مجالس نواب تهيمن عليها "أحزاب الحكم" دون رقابة حقيقية وفعل مؤسساتي كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية، ولهذا رأينا كيف وصلت حالة التضامن ما بين الأحزاب الحاكمة حين وصلت انتفاضة تشرين إلى مرحلة متقدمة، وصارت أمام استقطاب ديني ـ طائفي أنتج تبريرًا للمجازر في بعض الأحيان.

اقرأ/ي أيضًا: دون حق في اختيار الحكومة.. ماذا يعني وجود مئات المرشحين "المستقلين"؟

يشكل العراق اليوم واحدًا من الأمثال البارزة عن ما يسمى في العلوم السياسية بـ"التسلطية التنافسية" أو "التسلطية الانتخابية"، إذ أن الانتخابات معروفة النتائج مسبقًا، ولا يوجد أمل في تغيير مراكز القوى نظرًا للآليات التي تطورها الجماعات الحاكمة في محاولة البقاء والسيطرة على النظام السياسي، وقد يقول قائل إن النظام بشكل عام يمنح فرصة للشباب أو للوجوه الجديدة أن يدخلوا الانتخابات، لكن وإن تنزلنا جدلًا لنقاش هذا الأمر، فإن النظام من الممكن أن يمنحك فرصة الدخول للبرلمان، لكن لا يمنحك فرصة العمل خارج الآليات المرسومة من الأعلى والتي يضعها الزعماء ومراكز القوى "الزعاماتية" في النظام، ومن يحاول الخروج، سيقابل ربما بتحشيد طائفي أو ديني، كما أن الأصوات المختلفة فيه لا يمكن أن تخرج أو تؤدي عملها، إلا عبر صراخ هنا وكلمة هناك في وسائل الإعلام.

يحتاج كل نظام سياسي إلى قدر معيّن من الشرعية، لكن حتى هذه الشرعية في العراق يتم الالتفاف عليها بطرق عديدة في الانتخابات، لا تبدأ بالتحشيد الطائفي والقبلي والمناطقي والذي لم نرغب أن نتوسع فيه خلال هذه المقالة، خصوصًا أننا نعتبره الجذر الأساس في ضرب الديمقراطية، بالإضافة إلى أن الانتخابات في الأنظمة الديمقراطية، تجري على أساس البرامج التي تعالج جذر الأزمات في الفضاء العام، لكن هنا، فإن التحشيد يكون عبر الخدمات التي تعتبر فسادًا من نوع لا مرئي، كما يحصل في "التبليط" وتوزيع "محولات الكهرباء"، وأشياء أخرى.

حتى الفرضية القائلة بأن الديمقراطية تصلح نفسها عبر التجربة والتراكم باتت غير منطبقة على النظام السياسي في العراق، لأنه يتخذ منها وسيلة لتوزيع القوة والثروة على مراكز معينة، والأحزاب المهيمنة تنافس نفسها من ناحية الحصول على أعلى المناصب، وليس من خلال البرامج والتنافس على الإصلاح، كما أنها تغلق الباب أمام أي تغيير من الممكن أن يقترب من الإطار الذي بُني عليه النظام، وتراجع جماعة الإخوان في المغرب مؤخرًا، كان دليلًا على التغيير من خلال الانتخابات كمثال، مع ملاحظة اختلاف السياقات والظروف وعدم صحة المقارنة في أشياء كثيرة بالأساس.

تصاغ على المشاركة في الانتخابات والآلية التي تتم فيها بشكل عام ملاحظات كثيرة، وقد أوردنا ملاحظات صغيرة منها، لكن هل تمثل المقاطعة حلًا لأزمة النظام السياسي وتنهي هذا الركود المُكلف في تكرار العرف والسلوك نفسه منذ 2003 وإلى هذه اللحظة؟ وبنفس الوقت، وهو برأيي السؤال الأهم: ماذا بعد المقاطعة؟

كانت هناك فرصة بعد مقتل الناشط إيهاب الوزني في أيار الماضي، لأن يكون فعل مقاطعة الانتخابات موحدًا ومنظّمًا، وليس مشتتًا أو يكون عبر مواقف هنا وهناك في وسائل التواصل الاجتماعي. حتى الكيانات الناشئة عن الاحتجاج لم تعمل بشكل يجعل من المقاطعة فعلًا شعبيًا، وربما يكون هو الفعل الثوري أو الاحتجاجي بعد إنهاء حراك الساحات، مع ملاحظة أن التأثير والتحشيد حتمًا لن يكون بنفس التأثير الذي أحدثته انتفاضة تشرين، لكنه يكون فعلًا ملموسًا ومنظمًا وله صوت، بينما أن المقاطعين الآن وكأنهم غير موجودين، مع افتراضنا أنهم يشكلون نسبة لا يستهان بها في الشارع.

الانتخابات شكل أخير للتنافس الديمقراطي وما يحدث في العراق ليس إلا مسرحية تتشابه أزماتها في كل دورة

ومع اعتقادنا أن الانتخابات في العراق ستشكّل نسبة كبيرة بسبب اليأس من الإصلاح والتغيير، لكنها من جانب آخر، دفاع عن جوهر الديمقراطية التي نؤمن بها ونريد أن تكون منهجًا للبلاد، والتي تفهم القوى السياسية في العراق منها كطريق للنفوذ وتبادل الفساد الطائفي وتقاسم النفوذ. لا يوجد شيء يعبّر عن فعل ديمقراطي ممكن أن يدخل أصواتًا جديدة تغيّر تدريجيًا في مسار النظام، وإن كان بطيئًا فهو مقبول. الانتخابات شكل أخير للتنافس الديمقراطي، وما يحدث في البلاد ليس إلا مسرحية تتشابه أزماتها في كل دورة وتعمّق الانسداد الذي قد يصل إلى نقطة، ربما لا يسيطر عليه أحد من حماة النظام، عاقل ومجنون، وما أكثر المجانين الذين لا يستفيدون من النزيف الممل للخراب هنا.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الانتخابات والتوقعات.. هل تكتمل خيبة الأمل؟

تنظيمات ما بعد تشرين: من المقاطعة إلى الممارسة