23-يناير-2020

سيواجه مدنيو العراق مرحلة جديدة من الكفاح بحال فاز الصدر بحكومة ما بعد الانتخابات (Getty)

حتى الآن، لم تُفهم زيارة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في التاسع والعشرين من تشرين الأول 2019، إلى النجف، بعد أن كان في إيران لفترة، حين خلع عمامته، وقاد بنفسه سيارة عادية وجماهيره تهتف من حوله ضد الفساد والقمع الذين تعرضوا له من قوات الأمن والميليشيات المجهولة، وتصوَّر العراقيون وقتها، وأنا منهم، أن الصدر سيقتلع بجماهيره المطيعة حكومة المنطقة الخضراء، ويؤسس دولة المواطنة الحقيقية والمدنية التي أكد عليها في غير مرة، والتي سقط لأجلها أكثر من 600 قتيل من المتظاهرين، والحبل على الجرار كما يقول العراقيون.

يتزعم الصدر كل شيء في العراق ولا أحد من قادة وزعماء ينافسه جماهيريًا ولا على مستوى عديد المسلحين والتأثير بالقرار ومقاعد البرلمان وحصص المناصب

على أرض الواقع، لا أحد من قادة وزعماء الأحزاب ينافس الصدر جماهيريًا، ولا على مستوى عديد المسلحين والتأثير بالقرار السياسي والحكومي ومقاعد البرلمان والحصص من المناصب، فالصدر يتزعم كل شيء في العراق، ولا أسهل من دعوته للمليونية، حتى تجيء الملايين من كل فجٍ عميق طاعةً لسماحته، وهذا ما يُميّز التيار الصدري، إنه مجتمع اشتراكي ينظم نفسه بنفسه وعقائدي، مطيع، لا يتغير ولا يخشى أحد، انفجاري، جاهز لكل المصائب، انتحاري وجريء، لذلك فإن كل تقلبات الصدر وتبدل مواقفه وتحولاتها، لا تؤثر بجماهير التيار.

اقرأ/ي أيضًا: منافسة الصدريين: شعارات بلا عمل

ـ منذ اندلاع "ثورة اكتوبر" العفوية، والتي يتوسع نطاقها يومًا بعد يوم، وتتطور أساليبها السلمية، فبعد أن كانت مقتصرة على الهتافات، بلغت أخيرًا السيطرة على الطرق والجسور، وكانت منذ أسابيعها الأولى، خطرة على المنطقة الخضراء، حيث يتكوّم أنصاف الآلهة من المسؤولين في بغداد، كأنها حبل الإعدام الذي سيمر على جميع زعماء الأحزاب والتيارات الدينية والفصائل، وكل المشاركين بالعملية السياسية، هكذا كان خطاب الثوار، واضحًا، وقد طالبوا بصريح العبارة عبر هتاف مقتبس من بلدان عربية ثارت من قبل على الأنظمة الحاكمة، وقد استخدمه العراقيون أخيرًا، "الشعب يريد إسقاط النظام"، والنظام يعني كل شيء، كل الأحزاب والوزارات، الرئاسات الثلاث، والأخضر واليابس، والتيار الصدري بكل تأكيد.

ـ تظاهرات أكتوبر، لم تكن بالحسبان بالنسبة للصدر، حتى أنه لم يدعُ جماهيره إلى المشاركة فيها خلال الأيام العشرة الأولى، ودعاهم إلى ذلك يوم الخامس والعشرين من الشهر ذاته، مع التأكيد على الابتعاد عن الشعار المرعب "الشعب يريد إسقاط النظام"، فقد طُمر هذا الشعار ولم يُعرف مصيره حتى الآن، وتسلقت مطالب عدة، أولها استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ثم إجراء انتخابات مبكرة، وهنا تراخى حبل الإعدام عن الجميع، وكان النصر الأول الذي حققه الصدر لنفسه أولًا، ثم الآخرين.

بعد مجزرة الناصرية التي تسبب بها الجنرال جميل الشمري، استقال عبد المهدي، ثم صوَّت البرلمان على قانون الانتخابات، ونجحت "الدوائر المتعددة"، وحصل ما أرادته ساحات الاحتجاج، ولكن واقعيًا، حصل ما أراده الصدر، صاحب المبادرة بطرح نسخة القانون في تغريدة على "تويتر"، فالصدر طيلة الأشهر الخمس الماضية، كان يدير الاحتجاجات وجماهيره وحربه مع خصومه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على عكس بقية الأحزاب التي تصرف ملايين الدولارات على محطات تلفزيونية لا يتابعها العراقيون.

حقق الصدر 6 انتصارات عبر التظاهرات  أولها حين غاب شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" وتسلقت بدلًا عنه مطالب عدة 

هذا القانون، يمكن اعتباره النصر الثالث بعد اسقالة عبد المهدي وهي النصر الثاني، وكل الإفادات السياسية من صدريين وغيرهم، تؤكد أن التيار الصدري سيُشارك في الانتخابات المبكرة المقبلة، بدعمٍ شعبي هائل من جماهير ذات التيار، ومن سيجُرأ من المتظاهرين أن يعترض؟ فالساحات يحتلها الصدريون وهم الأكثرية من المحتجين، بحسب القيادي بالتيار حاكم الزاملي.

ـ هكذا يبقى الصدر وتياره في السلطة، سواءً كان الجيل العراقي الجديد يرفض الأحزاب القديمة أم لا، يبقى الصدر قبل الثورة وبعدها، وهذا نصر أكثر من رابع، لأنه الأهم.

ويرى مراقبون وخبراء عراقيون، أن الصدر سيقود المرحلة المقبلة بتوازن، فهو صديق إيران المحيّر وعدو غير مؤذٍ لأمريكا، كونه العارف بحجم الولايات المتحدة، وإمكاناتها، وهكذا يبقى الصدر وحزبه ما بقينا وبقي الليل والنهار.

ـ يذكر المؤرخ والكاتب "أريك دورتشميد" في كتابه "دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ"، أن التاريخ لا يتغير عبر الإرادة البشرية إن لم تحدث مع هذه الإرادة صدفة عجيبة. وسبحان الله، هذا ما حصل مع الصدر، فقد نفخت مصادفة التظاهرات واغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، الروح في العلاقة شبه الميتة بين الصدر وإيران، لمواجهة أمريكا، وهذا نصرٌ، فالصدر الذي ربح كل شيء من ثورة أكتوبر، وسيربح المزيد في حكومة ما بعد الثورة، يحتاج إلى حليفٍ يعرف حدوده، وهذا ما يجيدهُ الصدر في صناعة الحلفاء، حليفٌ يعرف حدوده، وهكذا تمكن الصدر من تصفير خلافاته مع الجارة الشرقية، ووحد خطابه مع طهران لمواجهة واشنطن بـ"التغريدات"، ويستحق هذا الفوز أن يكون الخامس.

ويمكن قراءة النصر السادس، عبر اليقين الذي لا غبار عليه، وهو أن الصدر سيبقى يلعب بنفس أدواته دون الحاجة للآخرين، لديه يدان، واحدة تحكم العراق، والثانية تضرب الحكومة وتحتج، مع الاستمرار بعدم الثبات على موقف، فلا هو مع الدولة ولا ضدها، مع بقاء جماهيره كما هي، صامدة وجاهزة دائمًا لكل جديد.

 نفخت مصادفة التظاهرات واغتيال سليماني الروح في العلاقة بين الصدر وإيران وهذا نصرٌ سيمكنه من ربح المزيد في حكومة ما بعد الثورة

ـ لا يمكن نكران أن الصدر هو أحد أسباب استقالة عبد المهدي، الذي تمسك كثيرًا بالسلطة، وكان معزولًا لأكثر من شهر ونصف عن واقع الاحتجاجات ويُدير مكتبه كل البلاد لشهرين تقريبًا، ولكن ماذا سيُحقق الصدر خلال المرحلة المقبلة، وهل سيفوز برئاسة الحكومة بعد الانتخابات المبكرة، لا سيما أنه صنع كل رؤساء ما بعد 2003، ولم يحصد غير الخلافات. إن كان الجواب نعم، فأمام علمانيي ومدنيي العراق مرحلة جديدة من الكفاح.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

انتفاضة تشرين.. جيل اليوم في مواجهة النظام الطائفي

الحراك المضاد لانتفاضة تشرين