29-مايو-2019

يتخوف الكثير من نقد مقتدى الصدر بسبب أتباعه وهجومهم غير المسبوق (فيسبوك)

يرتبك الصدريون بكيفية معينة فيما لو تعرض مقتدى الصدر إلى النقد. ونقصد بالنقد تلك العمليّة التقويمية التي تخترق الغامض وتستنطق المسكوت عنه لإنتاج فكرة جديدة، بعيدًا عن التعرّض الشخصي للصدر، من قبيل ما نشهده في مواقع التواصل الاجتماعي من تهكمّات وهستيرية جماعية تثير الضحك لا غاية منها سوى المزيد من الجهل والعقد المستحكمة. لكن يبقى الشق الأول أعلاه لماذا لا يتقبّل الصدريون النقد؟ ولماذا يُعتبر الرمز الديني متعاليًا عن النقد، ويكون في هذه الحالة وضع الناقد في موضع لا يُحسد عليه من القذف والتشهير والتخوين حتى لو كان دافعه نبيلًا؟

ما من حضارة قامت، وما من حداثة، وما من عملية تنويرية يمكنها النهوض مالم يكن الخطاب النقدي أحد دعائمها

 ثمّة أمر شديد الأهمية نتمنّى على الأخوة الصدريين التبصّر به: ما من حضارة قامت، وما من حداثة، وما من عملية تنويرية يمكنها النهوض مالم يكن الخطاب النقدي أحد دعائمها. ونجد في الخط الاجتهادي الشيعي باب النقد مفتوحًا على مصراعيه في الدروس الحوزوية، ذلك إن المجتهد اللاحق يعمد إلى نقد مباني المجتهد السابق للإتيان بمبانٍ جديدةٍ، يتفوق من خلالها على سابقه للمضيّ قدمًا بعملية الاجتهاد. فإذا كان النقد أصيلًا وأساسيًا في العلوم الدينية، فمن بابٍ أولى ينبغي تفعيله في الممارسة السياسية. هنالك شبه إجماع من الصدريين على نزاهة السيد مقتدى الصدر، ويشاركهم البعض من إخوانهم من خارج التيار الصدري بهذه الثقة، سواء كانوا دينين أو لا دينيين؛ فلا تخوين ولا تشكيك في نزاهة الصدر من هذا الجانب، وإنما للتصحيح والتقويم فيما يتعلق بالفعل السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: الصدريون في سلامهم وحروبهم.. من الثورة إلى سائرون

إذ ينظر الكثير إلى أتباع الصدر على أنهم يضعون الرجل في مقام العصمة والتنزيه المطلق، ولهم الحق في حبهم وولائهم لشخص الصدر، ونحن نشاركهم بهذه المشاعر الإنسانية، ونختلف معهم تحديدًا في تلك المسحة القدسية التي يضفونها على شخص مقتدى الصدر التي تمنعهم من الإصغاء لنقد الأداء السياسي لقائدهم لتقويم العملية السياسية.

لا يقتصر النقد على البناء فحسب، بل التقويض كذلك، بمعنى: إن البناء والتقويض كليهما يكمّلان أحدهما الآخر.. حينما ينحبس الذهن في تصورات وتغدو بمرور الزمن هوية مغلقة، فمن هنا تحتاج هذه التصورات إلى تقويض، أي تهديم البناء القديم لتحل محله تصوّرات جديدة. بناء تصورات جديدة يعني خلق إمكانات جديدة للفكر والحياة. فلنبقَ في الحدث السياسي: إن رجل الدين حينما يتصدى للعمل السياسي فستكون مسيرته السياسية وطرق تفكيره عرضة للمساءلة والنقد، أي أنها عرضة للتقويم والتقويض ومحاولة البحث عن إمكانات جديدة للتفكير وإيجاد حلول نافعة تختلف عن السابقة. فمن هذه الناحية إن نقده وتصويبه بالعنوان الثاني "العنوان السياسي".

إن النقد وظيفة صعبة وتحتاج إلى تراكم خبرة لا تتوفر لدينا نحن الحماسيين والمتعلمين على طريق نجاة. معظم ما نطالعه في مواقع التواصل لا علاقة له بالنقد، وهذا معلوم، ذلك أن النقد تخصص كما قلنا ولا علاقة له في هذه المواقع، باستثناء الكتاب الرصينين الذين نتعلم منهم، وما عداه فهو ومضات حماسية وردود أفعال عاطفية مدفوعة بآلام نفسية حادة في بعض الأحيان ومحاولة لاستجداء التقدير بطرق رخيصة، أو هي عملًا بالمثل الشائع "حشر مع الناس عيد". الأمة التي تستقذر النقد وتذمه وتربطه بكرامتها الشخصية، هي أمّة ميتة تعيد تكرار نفسها وتصاب بالعطب والجمود.

يتخوّف الكتاب، بشكلٍ عام، من التورط بنقد الأداء السياسي لمقتدى الصدر. إن تخوّف الكتّاب وعدم الدخول في هذه المساحة القلقة سيضاعف من منسوب الهذيانات ويفسح المجال واسعًا أمام الكتابات "السطحية" في مواقع التواصل الاجتماعي.

أصحاب الرأي يتخوفون بشكل عام من التورط بنقد الأداء السياسي للصدر، وتخوفهم وعدم دخولهم إلى مساحة النقد سيضاعف من منسوب الهذيانات

 النقد تقويم وغربلة وتراكم للخبرة، وليس عداء، فلو تفهّم الفريقان هذه الحقيقة ربما سينضج لدينا خطاب نقدي نحن أحوج إليه في هذه المرحلة. النقد لا علاقة له بكرامتنا الشخصية وإنما مرتبط بطرق تفكيرنا ومحاولة لإعادة النظر فيها. وفي أسوأ الأحوال، حتى لو اعتبرنا الناقدين أعداءً؛ فقد ينتفع الأعداء فيما بينهم بشكلٍ متواصل، من خلال حث أحدهما الآخر – لا شعوريًا - لسدّ الثغرات التي تحدثها نقاط الضعف لكلاهما.

اقرأ/ي أيضًا: الصدر بعصاه.. المدنيون بمحنتهم!

نحن هنا أمام تضامن من نوع آخر صعب المصادق عليه،  يقوم به عدونا لخلق المناخ المناسب لتقويمنا من حيث لا يشعر. يغوص الآخر في أعمق أعماقنا ويحرك الراكد والمسكوت عنه والمستحيل التفكير فيه، ولولاه ما لاح لنا بصيص الضوء في أعماقنا المظلمة؛ إنه يمنحنا الصبر والسلوان والمواجهة والاكتشاف والابتكار وهلم جرًّا. بالتأكيد يفشل الكثير منّا في هذا الاستثمار المربح، ويقع فريسة الشعور بالعدوانية والعنف والكراهية والاحتقار والشعور بالألم الذي لا يطاق، خصوصًا لو طال النقد من يحبهم ويذوب فيهم ويقدّس وجودهم.

النقد البنّاء والنقد الهدّام

هذه الرطانة نسمعها كثيرًا من ذوي الميول العاطفية حينما يستشعرون خطر النقد على رموزهم الدينية أو الحزبية، ولعلّهم يقصدون النقد الموضوعي بمعزل عن شَخصَنة الآخر، إذ يتحول النقد، في غالب الأحيان، إلى تصفية حسابات بدلًا من كونه تقويم وبناء. ولكي نلفت نظرنا أولاً ونظر الأخوة المعترضين إن النقد الهدّام أكثر بناءً من الأول، ذلك إنه يقوّض المرتكزات التي تبتني عليها رؤية ما أو قراءة ما، والسعي إلى تكوين رؤية معاصرة تتوافق مع اللحظة الراهنة. وراهننا يغرق بالعواطف المذهبية والقبلية والحزبية؛ لا علاقة بالتهجم أو الساديّة، أو الهذيان العاطفي بعملية النقد، فهو في نهاية المطاف تقويم وبناء. يصدف أن يكون هذا التقويم والبناء يتسم بالقسوة والألم، لكن سرعان ما تَخْفَتْ هذه المشاعر المؤلمة بعد الاعتياد على لغة النقد.

عادة ما يربط العربي عملية النقد بكرامته الشخصية ما يجعلها تقترب نسبيًا بجرائم العار!

فلنترك القضايا العميقة لأهل الاختصاص ونركز على العاطفة التي تمزق شخصية الفرد العراقي شر ممزق؛ فكثيرًا ما تمتص هذه الحالة كل فعاليتنا وتحيلنا إلى كائنات يحركها الفعل الحماسي والانفعالي، الذي يأكل كل منجزاتنا ويحيلنا إلى "فزّاعات" عاطفية يمكنها أن تتفق وتختلف على ذات الفعل في آن واحد.

 النقد تقويم وغربلة وتراكم للخبرة، وليس عداء، فلو تفهّم الفريقان هذه الحقيقة ربما سينضج لدينا خطاب نقدي نحن أحوج إليه في هذه المرحلة. بالنتيجة؛ النقد لا علاقة له بكرامتنا الشخصية!

العاطفة لا تقبل بالحقيقة ولا تقبل بالعقلانية ولا تقبل بالنقد، وإذا بقينا على هذا المنوال فستكون كل "منجزاتنا" السياسية في ذمّة المجهول. وحده النقد من يوجّه بوصلتنا نحو التفكير الصحيح، ولا أظن مقتدى الصدر يرفض هذه اللغة بعد أن صرّح أكثر من مرّة بسعة صدره لتقبّل النقد. أقولها بضميرٍ مرتاح، لو سألوا الصدر عن جواز النقد لفعله السياسي، سيقولها دون أن يرمش له جفن: انتقدوني فلست بمعصومٍ!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بروتستانت التيّار الصدري

الصدر بالمقلوب.. هل يمثّل العقائدي الوطني؟