08-فبراير-2021

مليون و800 ألف عنصر عسكري في العراق (Getty)

مثلت الخدمة العسكرية كابوسًا خانقًا للشبان قبل عام 2003، فقد حاولوا تجنبها بشتى الأساليب نظرًا للظروف القاسية في معسكرات التدريب وسوء التغذية وضعف المقابل المادي، فيما كانت عناصر "الانضباط" تطارد "الفارين" في الأزقة ومركبات النقل العام. وعلى الرغم من المخاطر الكبيرة والحرب المستمرة في البلاد ضد التنظيمات المسلحة، فقد تحوّلت الخدمة العسكرية بعد سقوط النظام السابق، إلى ملجأ للشباب للهروب من البطالة وشظف العيش.

يقول خبير اقتصادي إن 60% من الموظفين يعملون في القطاع الأمني في العراق

وفضلًا عن التظاهرات التي انطلقت في تشرين الأول/أكتوبر 2019، يشهد العراق منذ سنوات احتجاجات تنطلق بين فترة وأخرى، لخريجين من جامعات مختلفة للمطالبة بالوظائف، لكن وبعد أن يأخذ اليأس مأخذه من أصحاب التخصصات المدنية المختلفة، يلجأون لخيارهم الأخير، التقديم على المؤسسات الأمنية والدخول فيها كونها الطريق الأسهل للحصول على راتب من الدولة، حتى وصلت أرقام العناصر الأمنية في العراق إلى مليون و800 ألف عنصر عسكري، بحسب الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة، فيما يشكّل عدد المعتمدين على رواتب الدولة من العراقيين حوالي سبعة ملايين، ومن بين الترهل الوظيفي في البلاد، فإن 60% من الموظفين يعملون في القطاع الأمني بمختلف صنوفه ومؤسساته، وهو ما يفسّر أسباب لجوء الشباب إلى الخيار العسكري دومًا.

اقرأ/ي أيضًا: قرار حل الجيش العراقي.. تفريخ المحاصصات!

كان جواد كاظم (35 عامًا) يعمل في معمل للألبان لأكثر من سبع سنوات، لكنه لجأ إلى التطوّع في الجيش العراقي لكي يستطيع أن "يطعم أطفاله". يقول كاظم لـ"ألترا عراق"، إن "المعمل أُغلق ولم أجد فرصة في معمل آخر، وهو ما دفعني إلى أن أذهب إلى الخيار الوحيد الذي يجعلني أعيش بكرامة، الجيش العراقي"، مبينًا "لا أحب العسكرية وكنت أهرب منها، مستدركًا "لكن المعيشة تتطلب ولا يوجد خيار آخر غيرها في العراق". 

لقد تدهور القطاع الصناعي في العراق بعد عام 2003 حتى أصبح شبه معدوم في الوقت الحالي، إذ أن "سوء الإدارة الاقتصادية والفساد حولا الاقتصاد العراقي إلى اقتصاد ريعي واتكالي، وباتت الدولة هي الممولة الوحيدة لمعيشة المواطنين"، بحسب المتخصص الصناعي باسم جميل أنطون الذي يكشف عن أن "حوالى 50 ألف مشروع في القطاع الخاص شبه متوقفة في السنوات الماضية نتيجة سوء إدارة الاقتصاد، فضلًا عن تلكؤ واضح وشلل في المشاريع الصناعية الحكومية"، قائلًا إن "هناك فئات سياسية مستفيدة تحاول أن تبقي العراق بلدًا مستهلكًا".

وكان المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية عبد الزهرة الهنداوي، قد كشف في تشرين الثاني/نوفبمر الماضي، أن "الأزمة المالية التي يشهدها العالم عمومًا والعراق خصوصًا بسبب كورونا، وانخفاض أسعار النفط تهدّد بإيقاف حوالى 6250 مشروعًا في مختلف القطاعات في البلاد، وأن المبالغ التي نحتاج إليها لإتمام هذه المشاريع حوالى 100 مليار دولار".

يقول الهنداوي إن "العراق الذي يعتمد على النفط مصدرًا لتمويل موازنته منذ عقود ليس من السهولة عليه الانتقال إلى مورد آخر بسرعة"، إذ تحتاج القطاعات الإنتاجية ـ بحسب رأيه ـ إلى مراحل متعددة من بنى تحتية وموارد بشرية وخبرات لتهيئتها وإعدادها كمصدر مالي يستطيع تمويل الموازنة.

ويؤكد عضو اتحاد الصناعات العراقية علي الدخيلي، على أهمية أن "تصبح هنالك صناعات تحويلية ثانوية تساعد في الحفاظ على الدولار داخل البلد وبالتالي تشغّل بطالة كثيرة، ومن ثمّ تساعد في تصدير المواد خارج البلد"، ويقول الدخيلي إن "الصناعة العراقية تعاني بسبب عدم وجود جدية حقيقة من الحكومة في دعم هذا الملف".

وفي تموز/يوليو 2020، أعلنت وزارة التخطيط أن نسبة الفقر في العراق بلغت 31.7 في المئة، بارتفاع يقدر بـ12 في المئة عن عام 2019، وهو معدل قياسي يسجل للمرة الأولى منذ عام 2003، بينما تصل نسب البطالة إلى 40%، وهو الأمر الذي يدعو مختصين وخبراء أن يتحدثوا بشكل مستمر عن ضرورة النهوض بالصناعة والزراعة لتوفير فرص العمل والقضاء على البطالة. 

فيما يرى الخبير الاقتصادي منار العبيدي، أن ضعف الامتيازات التي تتمتع بها القطاعات الأخرى، هي ما يدفع الشباب للتقديم ومحاولة الحصول على وظيفة في السلك العسكري، قائلًا إن "المنتسب في القوات الأمنية يضمن الراتب، وله حقوق يتميّز بها عن الموظف المدني".

ويقول العبيدي في حديث لـ"ألترا عراق"، إن "مقدار الوظائف المقدمة للجانب الأمني كبيرة جدًا وبحسب آخر احصائية، فإن تقريبًا 60٪؜ من موظفي الدولة في القطاع الأمني سواء داخلية أو دفاع أو جهات أخرى"، مبينًا أن "هذه الامتيازات تدفع الشاب للعمل في السلك العسكري لكونه يحتوي على الكثير من فرص العمل".

وحول الحلول التي من الممكن أن تعدّد الموارد الاقتصادية وتقلّل من اعتماد الشباب على المؤسسة العسكرية فقط، يرى العبيدي وجوب "تقليل الاعتماد على السلك العسكري ومحاولة تحويلهم للقطاع الصناعي واستثمار هذه الكتل البشرية في إنشاء مشاريع تنعش القطاع الصناعي والزراعي أيضًا".

أكثر من 45 ألف شخص يتخرجون سنويًا في الجامعات والمعاهد في العراق

الراتب الذي توفره الوظيفة في المؤسسات الأمنية هو السبب الرئيسي في التوجه للعسكر، كما يقول أحمد جاسم، وهو جندي في الجيش العراقي، ويحمل شهادة الهندسة في الكهرباء.

اقرأ/ي أيضًا: التجنيد الإلزامي.. عودة الشباب إلى بيت الطاعة!

يقول جاسم لـ"ألترا عراق"، إن "انعدام الفرص في العراق، وضعف دعم الدولة للمشاريع الصناعية والتجارية يجعل من السلك العسكري الخيار الأول"، مضيفًا "أنا خريج هندسة كهرباء، لم أجد الفرصة المناسبة في القطاعات الحكومية الأخرى، ولم أجد قانونًا يحمي حقوقي، لم أجد أمامي خيارًا سوى الوظيفة العسكرية". 

يعتقد جاسم أن "طموحه أكبر من الوظيفة التي يعمل بها وبأنه كان يحلم بأن يقدم شيئًا لبلده لكن الخيارات محدودة للعمل في العراق"، مضيفًا أن "الكثير من حاملي الشهادات يعملون معه لأنهم لم يجدوا فرصة أخرى"، ويقول "إنهم تحت رحمة السلك العسكري فقط".

وبحسب إحصائيات الأمم المتحدة فإن أكثر من 45 ألف شخص يتخرجون سنويًا في الجامعات والمعاهد في العراق، وفي سنة 2019 وحدها كان هنالك نحو 50 ألف خريج، وتمّ تعيين نحو ألفين فقط من هذا العدد.

يعتبر جاسم، أن هناك "تعمّد" في دفع الشباب العراقي للعسكرة، حيث يقول إن "استقرار العراق اقتصاديًا يؤثر على الكثير من البلدان التي تستفيد من وضع البلاد، وكذلك تؤثر على المسؤول العراقي أيضًا"، لافتًا إلى أن "استثمار الشباب في أعمال أخرى يعني إرجاع الصناعة والزراعة، وهذا الذي لا تريده الحكومة العراقية وغير قادرة عليه".

لا يقتصر الأمر على أصحاب الشهادات والتخصصات المختلفة في البلاد في اللجوء للخيار العسكري، إذ يصل إلى الفلاحين الذين يتركون أراضيهم بحثًا عن الراتب الذي توفره المؤسسة الأمنية في العراق، وهو ما يؤكده جاسم خلف من محافظة ميسان. 

يروي خلف قصته لـ"ألترا عراق"، بالقول إن "الكثير من المزارعين تركوا أراضيهم وذهبوا للسلك العسكري وأنا منهم، مبينًا "لم تعد الأرض التي أعمل بها توفر حتى مصروفي اليومي بسبب عدم دعم الحكومة للفلاحين"، لافتًا إلى أن "شح المياه وارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات، والمقارنة بين المصاريف التي ينفقها الفلاح على مزرعته والأسعار التي يبيع بها المحصول هي ما دفعتي ـ مع أخوتي ـ إلى أن نترك أراضينا ونذهب للتطوع في الشرطة والجيش رغم الأخطار". 

وعلى سبيل المثال، قدمت وزارة الداخلية 28 ألفًا و600 قتيل منذ 2003 لغاية كانون الثاني/ديسمبر 2019، بحسب وكالة الأنباء العراقية الرسمية، فيما لا تُعلن الحكومة العراقية والجهات المسؤولة عن عدد قتلى وجرحى الحرب على تنظيم "داعش" من القوات العسكرية في المؤسسات الأخرى. 

الامتيازات هي من تدفع الشاب العراقي للعمل في السلك العسكري لكونه يحتوي على الكثير من فرص العمل

وفي آب/أغسطس 2020، كشفت لجنة الزراعة في البرلمان، عن هجرة نصف فلاحي العراق أراضيهم بحثًا عن مهن أخرى لزيادة دخلهم ومواجهة أعباء الحياة.

وتثار الكثير من الشبهات حول ملف التجنيد في القوات المسلحة العراقية منذ عام 2003، والذي يخضع لهيمنة أطراف سياسية، حيث شاع مصطلح "فضائيين" و"دمج" بعد انهيار الجيش وقوات الأمن في عام 2014، وكشف اجتياح تنظيم "داعش" ثلث مساحة البلاد، الكثير من ملفات الفساد في المنظومة الأمنية والعسكرية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حملة الشهادات و"لعنة" البطالة

التجنيد الإلزامي للواجهة.. عقوبات "قاسية" تنتظر المتخلفين