كانت الشعائر الحُسينية بعد سقوط النظام السابق ظاهرةً جديدةً بالنسبة لعدة أجيال لم تراها من قبل بعد عقود من تشديد النظام على منع شعائر عاشوراء وغيرها من الممارسات الشيعية. الذهاب إلى المراقد سيرًا على الأقدام، اللطم والضرب على الظهور والرؤوس بالزناجيل والسكاكين، مواقد الطبخ الكبيرة والعلنية، وتوزيع الطعام على الناس ... إلخ من الشعائر.
تؤكد المُبالَغة في الشعائر بوضوح "إننا هنا، نُعلي هوية الجماعة عبر فعالياتها الممنوعة سابقًا. و أي (آخر) ينتقدها هو بعثي يُناصب العداء لآل البيت"
حَبَسَ صدام حسين ذلك "النمر" المُسمى التقاليد الدينية في قفص بدواعٍ شتى من بينها منع إمكانية التمرد على نظامه من خلال تجمع أصحاب العقيدة الواحدة؛ لكن النمر المحبوس انفجر في نفوس المواطنين الشيعة بعد سقوط النظام، مُكذّبًا من يدّعي أن الاستبداد يقضي على إيمان وإرادة الجماعات، مؤكدًا أن الكبت يولد الانفجار ولو بعد حين.
اقرأ/ي أيضًا: طقوس عاشوراء.. الاكتفاء بـ"اللطم" ونسيان الحقوق!
كانت المُبالَغة في الشعائر ونصب الخيام وإعلاء الرايات وقطع الشوارع واستعراض المواكب السيّارة، واضحةً وضوح الشمس، لمن تستهدف، وعلى ماذا تؤكد. "إننا هنا، نُعلي هوية الجماعة عبر فعالياتها الممنوعة سابقًا. أي (آخر) ينتقدها هو بعثي يُناصب العداء لآل البيت". هذا ما خلقه منع صدام حسين للشعائر.
المسألة لم تقف عند هذا الحد، فاستمرار الشعائر بدعمٍ (لا منعٍ) من الدولة، وإعدام صدام حسين في عام 2006، يُمكن أن يخفف حالة الحنق والطاقة المتفجّرة لـ"انتقام الذات" بالنسبة للشيعة، لكن دخول الفاعل الطائفي، حيث الجماعات التكفيرية التي تُفجّر المواكب الحُسينية، ووسائل الإعلام (الخليجية غالبًا) المُحرِّضة، ورجال الدين الذين يكفّرون الشيعة وطقوسهم ويحللون دمائهم، خلق تحدٍ آخر بالنسبة لهذه الطائفة، وسباق جديد لـ"تأكيد الذات" هذه المرة بعد أن كانت تُصارع للانتقام المعنوي. صارت الجماعة الشيعية مُهدَّدة في الواقع، واختلطت القصائد التي تُنادي بدم الحسين بدماء الذين يَسيرون نحو كربلاء والذين يُقيمون سرادق العزاء في شهر محرم. طاقة أخرى تفجّرت لدى الشيعة حين انسجمت شعارات "المظلومية" المذهبية التاريخية، بالمجازر التي يتعرض لها المدنيون العزل بسبب ممارستهم لشعائرهم في بلادهم!
ثم استخدمت الشعارات المذهبية في الحرب الطائفية الطاحنة التي استعرت بعد تفجير مراقد الأئمة في سامراء، حتى دخلنا المرحلة الثالثة بعد "الانتقام" و"التأكيد" وهي "الدفاع" عن الذات من خطرٍ عينيٍّ. هدد تنظيم الدولة (داعش) عبر قياداته باستباحة مدن الشيعة المقدسة، النجف وكربلاء، وصولًا إلى البصرة، ليعلن وكيل المرجعية العليا في النجف فتوى الجهاد الكفائي ضد التنظيم درءًا للخطر الذي يُهدد المراقد المُقدسة بعد اجتياح التنظيم لمساحات كبيرة شمال وغرب البلاد. واختلط الآن القتال الحاضر في الواقع ضد الجهة التي تتبنى علنًا تكفيرها للشيعة، بالدفاع عن رموز المذهب وأضرحتهم، بالجهاد الموسوم من المرجع الأعلى للطائفة، ثم بالشعائر التي أصبحت عنوانًا للمعارك التي تخوضها الفصائل المُسلحة والتي شكّلت ما عُرف بعد ذلك بالحشد الشعبي، فضلًا عن المقاتلين في صفوف الأجهزة الأمنية.
أعطى تنظيمُ داعش زخمًا كبيرًا للشعائر المذهبية الشيعية، إذ أصبح العنادُ أكثر تعميقًا للاعتزاز بالذات، وصار النقد ـ أي كان نوعه ـ ضد المغالاة أو قطع الطرقات أو تعطيل مصالح الناس أو إزعاجهم، يواجهُ بتهمة "الدعشنة" والعداء لآل البيت وتبني الفكر الوهابي.
لم تعد "الأنا الشيعية" مُستفزَة كما في السنوات السابقة؛ لكنها باتت تشعر بالفشل "السياسي" في ظل حكم الطائفة
استغل بعض خطباء منابر الحسينيات والعتبات الدينية، المشاعر المذهبية في أوقات مُمارسة الشعائر بتوجيه أذهان الناس إلى استعداء "الآخر"، وغذّوا خلال ممارسة الطقوس مشاعر العداء ضد أبناء السُنة، والتغاضي عن فساد الحاكمين، بل دعا أحدهم صراحةً وعلنًا لانتخاب أي كان من الطبقة السياسية الشيعية طالما تُتيح للشيعة ممارسة شعائرهم.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا فعل "شيعة السلطة"؟
لكن الحال لن يدوم، ذلك ما لا يعرفه أصحاب التجارب السياسية الحديثة، ومن لم يقرأوا التاريخ جيدًا. لم تخفت طقوس عاشوراء، ولم يقل عدد زوار المراقد المقدسة بشكل ملموس، ما جرى هو تغيّر في ذهنية بعض الممارسين للشعائر خاصةً من فئة الشباب التي باتت تتحسس خداعها من قبل الطبقة الحاكمة باسم المذهب، وباتت الشعارات التي تندد بالفساد والمحسوبية والمحاصصة تدخل ضمن الشعائر الحُسينية. فالخطاب الذي يُعلي من مبدئية الإمام الحسين وطهرانية الإمام علي لم يعد متسقًا مع حالة النهب العلنية لثروات البلاد وتفشي البطالة وتردي الخدمات في مناطق الشيعة أنفسهم، خاصةً مع هزيمة داعش وتراجع العمليات الإرهابية إلى حد كبير، بل وانعدامها تقريبًا في المحافظات الجنوبية، وانخفاض حدة الخطاب الطائفي العربي خصوصًا، الموجّه إلى العراق.
لا زال الناس مؤمنين بعقيدتهم المذهبية، وطقوسهم وتقاليدهم الممتدة عبر السنوات؛ لكن الكثير منهم فقدوا الثقة بمن يوظفون الشعارات المذهبية سياسيًا، ويستغلونها انتخابيًا، ويرفعونها طائفيًا.
أزاحت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض التظاهرات شيئًا من الغطاء عن ما يُعرف بـ"الخطوط الحمراء" في العراق، وبات الجميع تحت طائلة النقد والاتهام، صاحب العمامة والعقال وربطة العنق.
انتهت مرحلة الانتقام للذات، ثم تأكيدها، ثم الدفاع عن وجودها، وفي تلك المراحل المتعددة أُعيد الاعتبار للذات الشيعية بنسبة كبيرة. لم يعد الساسة السُنة يستفزون عقيدة الشيعة في تصريحاتهم، تارةً بسبب خوفهم من عواقبها، وتارةً بسبب التوجّه الإقليمي/الخليجي لخفض الخطاب الطائفي، وتارةً كون جماهيرهم ذاقت الأمرين من هذا الخطاب. وانسحب ذلك على تعزيز ثقة الفرد الشيعي بنفسه، ما فسح له المجال بالتفكير في نقد الذات دون الشعور بأنه يُناصر جماعةً ضد جماعته. ذلك يحصل على نحو ملموس لكنه ليس بالشكل الحاسم حتى الآن.
لم تعد "الأنا الشيعية" مُستفزَة كما في السنوات السابقة؛ لكنها باتت تشعر بالفشل "السياسي" في ظل حكم الطائفة. أضحت التظاهرات تعبيرًا جديدًا يسلكه المواطنون الشيعة حصرًا في محافظاتهم، وتتواصل الاحتاجاجات والاعتصامات ذات المطالب المشروعة من أبناء المحافظات الجنوبية ضد سياسييهم.
لم تعد الذات الشيعية الجريحة "جريحة" بالمعنى القديم الذي يُدلل على الاضطهاد والمظلومية من قبل السلطة. طالما يُمثّل الساسة الشيعة ثلثي الحكومة والبرلمان
لطالما ارتبطت الطقوس الشيعية بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه أبناء الطائفة، فحالة الحزن التي يُعبر عنها المعزّون في عاشوراء تتسق تمامًا مع حالة الظلم السياسي وتردي الوضع الاقتصادي الذي يعيشوه منذ العهد العثماني حتى قيام الدولة العراقية الحديثة، مرورًا بالمراحل المذكورة أعلاه.
اقرأ/ي أيضًا: "ما هي مطالبكم؟".. القوات الأمنية تُحاصر أول "مسيرة حسينية" في البصرة!
ثمة خطران يواجهان الطائفة على الصعيدين الوطني والمذهبي، يتمثل الأول بممارسة الطقوس ونصب سرادق العزاء ورفع الرايات في المنطقة الغربية ونينوى وصلاح الدين، إذ تعمل الطبقة السياسية على إحياء مستمر لمرحلة "انتقام الذات"، وهو ما سيخلق مشكلات أكبر في المراحل اللاحقة، فممارسة الطقوس الشيعية ورفع الرايات التي تُعبر عن "الهوية المذهبية" في المناطق السُنية لا يُمكنها إلا أن تفرز هوية بالمقابل، تُستَفز من حالة "الفرض" هذه، بطبيعة النفس البشرية، وهو ما يعمق الشرخ بين المجتمع لا العكس، ما يعني تنشئة أجيال جديدة تحمل الكراهية للطائفة المتفوقة.
الخطر الآخر، على المستوى البعيد، الذي من المُفترض أن يتحسسه "المخلصون لمذهبهم"، هو وصول الناس إلى مرحلة من القناعة الذاتية بأن ممارسة الطقوس المذهبية تُساهم في ديمومة الطبقة السياسية الفاسدة، في حال استمرار الاستقرار الأمني مع التدهور الاقتصادي والخدماتي، وانقراض الخطاب الطائفي.
سوف لا يُميز الناس، إن بقي الحال على ما هو عليه، بين الطقوس والتقاليد الدينية وبين النظام السياسي وشخوصه وفساده. هكذا تُعلّم التجارب..
لم تعد الذات الشيعية الجريحة "جريحة" بالمعنى القديم الذي يُدلل على الاضطهاد والمظلومية من قبل السلطة. طالما يُمثّل الساسة الشيعة ثلثي الحكومة والبرلمان، فأن الجرح ذاتيٌ، والشعائر التي استخدمت أحيانًا في "تنويم" الناس وإسكاتهم عن حقوقهم، قد تفعل فعلها العكسي، وينقلب السحر على الساحر، ولات حين مناص.
اقرأ/ي أيضًا:
الطقوس الشيعية.. آليات الدفاع عن الهوية
"أداة للنضال" تلهم الملايين حول العالم.. كيف ينظر الغرب إلى عاشوراء؟