شارك العراقيون قبل سنةٍ من الآن، في حدثٍ غيّر خارطة الحياة السياسيّة في العراق، مشاركين في الانتخابات ومقاطعين لها، الانتخابات الأولى بعد انهيار 2014 الذي كان نتيجةً للاستقطاب الطائفي والصراع ما بين الأحزاب وما بين قادة المكونات، فتم تغيير ثلثي أعضاء البرلمان في هذا الحدث، وسقط الكثير من الكبار أو ما يسمى بـ"الكبار"، سقط قادة أحزابٍ، ورموز طائفية تاريخية، وشخصيات عدّها الكثير أنها من رموز العلمانية في العراق، وحتى أولئك الأشد صُراخًا باسم الطوائف سقطوا.
المقاطعون والمشاركون في انتخابات 2018 ساهموا في تأسيس الخارطة السياسية الجديدة التي تكسرت فيها التكتلات الطائفية السابقة مثل التحالف الوطني الشيعي، وتحالف القوى السني
افرزت نتائج انتخابات أيار/مايو 2018 مغادرة حنان الفتلاوي التي طالبت بقتل 7 من السنة كلما يُقتل 7 من الشيعة، ولقن رئيس المجلس الأعلى، وهو من أعرق الأحزاب الشيعية في العراق همام حمودي درسًا بليغًا عندما لم يحصل على الأصوات التي تؤهله إلى البرلمان، ومثله في المصير ذاته سليم الجبوري ومحمود المشهداني رموز الحزب الإسلامي السني، ومثلهم الذي يصرخ كثيرًا في الفضائيات مشعان الجبوري وابنه يزن، ومثلهم علمانيون كمثال الألوسي وشروق العبايچي.
اقرأ/ي أيضًا: آخر مسرحيات خاسري الانتخابات العراقية.. "الشعب الأحمق لم يخترنا"!
على هذا الأساس، وبرغم اللغط والجدل الذي حدث حول آليات التصويت الإلكتروني الذي أخّر إعلان النتائج النهائية للانتخابات، ولأول مرة: يفوز تكتلٌ لا يمثل المعارضة العراقية السابقة التي حكمت العراق بعد 2003 بالمركز الأول في نتائج الانتخابات، وهو تكتل "سائرون" وفي ذات الوقت تحصد قائمة "النصر" التي يقودها حيدر العبادي "الشيعي" أعلى الأصوات في الموصل ذات الأغلبية السنية، في مؤشراتٍ على تجاوز العراقيين لخنادق الطائفية، وبدء زمن أفول النمط العريق من قادة المعارضة العراقية السابقة الذي فشل في حكم العراق ونقله من حربٍ أهلية إلى أخرى، ومن فشلٍ في التعليم والصحة والتنمية والأمن إلى فشل متجددٍ وعلى كافة المستويات.
تكتلاتٌ غير طائفية!
ساهم "المقاطعون" و"المشاركون الواعون" قبل سنةٍ من الآن في تأسيس الخارطة السياسية الجديدة في العراق، الخارطة التي تكسرت فيها التكتلات الطائفية السابقة مثل التحالف الوطني الشيعي، وتحالف القوى السني، وحتى التحالف الكردستاني الكردي الذي ظهرت خلافاته الداخلية واضحة في قضية اختيار رئيس الجمهورية، وقضية كركوك، وقضايا أخرى.
تكتلت القوى السياسية هذه المرة في تكتلين على أساسٍ غير طائفي، حيث ظهر تكتل "الإصلاح والإعمار" الذي ضم سنة وشيعة، وتحالف "البناء والإعمار" الذي ضم سنة وشيعة أيضًا، وهو أمر صحيّ في العملية السياسية، لأنه بالضرورة سيؤدي إلى ذهاب أحد المحورين إلى تشكيل الحكومة باعتباره الكتلة الأكبر وذهاب الآخر إلى المعارضة وعدم الرضا، كما هو الحال في أي تجربة ديمقراطية صحيّة تتماثل في ظروفها مع ظروف العراق السياسيّة الجديدة.
لا معارضة للفشل... العودة إلى المحاصصة!
لكن المخيّب للآمال أن الذي حدث هو العكس، حيث انخرط التكتلان عمليًا في عملية اختيار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي واختيار أعضاء حكومته، وسط حديثٍ من بعض القوى التي تنخرط ضمن هذين المحورين حول استئثار قائمة الفتح التي تقود "البناء" وقائمة سائرون التي تقود "الإصلاح" في كل القرارات السياسية. الأمر الذي أحدث تصدعًا داخل هذين المحورين وخلافاتٍ حول تقاسم وتحاصص المناصب والمغانم الحكومية، وأدّى لخروج كتلة الحل بقيادة جمال الكربولي من محور "الفتح" وتهديداتٍ واضحة من كتلتي النصر والحكمة المنخرطين ضمن محور "الإصلاح" باللجوء للمعارضة.
هناك اتفاق بين "سائرون" و"الفتح" لتقاسم أكثر من 4000 درجة خاصة ما بين وكيل، مدير، وزير، سفير، ورئيس جامعة، تمثل الحلقات الإدارية الوسطى الأهم في بنية الدولة العراقية
كل هذا وسط اجتماعاتٍ تجري الآن بين "سائرون" و"الفتح" لتقاسم وتحاصص أكثر من 4000 درجة خاصة ما بين وكيل، مدير، وزير، سفير، ورئيس جامعة، تمثل الحلقات الإدارية الوسطى الأهم في بنية الدولة العراقية.
إذًا، عاد الجميع لسيرة المحاصصة وتقاسم الكعكعة، وبدأت قصة الفشل تروى على العراقيين من جديد، منذ اللحظة الأولى التي اختار فيها الطرفان خيار التوافق والتحاصص بدل الوقوف في دكة الاعتراض على هذا التحاصص الذي سيقود إلى الفشل كما في كل مرة على مدى ثلاث دورات سياسيّة ماضية بالتأكيد.
اقرأ/ي أيضًا: بين "سائرون" و "الفتح".. القصة الكاملة لصفقة المناصب السيادية وغيرها!
ترك الطرفان خيار بناء حياة سياسية جديدة كان العراقيون أقرب لها من أي وقت مضى، حياة سياسية تهدّم اعراف المحاصصة السابقة، وتُبنى على أساس طرفين يذهبان بأتجاهين مختلفين ينعكس بالنتيجة بصورة أفضل على مسار التنمية والتقدم... أما الفشل القادم فبالتأكيد وكما هو الحال في كل مرة، يتيم لا أب له ولا أم، والكل تتبرأ منه.
رئيس وزراء متردد وضعيف!
أدّى خيار التوافق والتحاصص هذا لاختيار رئيس للوزراء بلا كتلة تحميه، وبلا كتلة يستند عليها لاتخاذ قرارات "حازمة وشجاعة وقوية" كما وصفوه في البداية، وبدا هذا التردد والضعف واضحًا في قضية اختيار وزراء حكومته، حيث أصر وبضغطٍ من محور "البناء" المقرب من إيران على ترشيح مستشار الأمن القومي ونائب رئيس الحشد الشعبي المرفوض شعبيًا وسياسيًا لوزارة الداخلية، والإصرار على ترشيح شخصيات حزبية عليها ملفات فساد لم تحسم إلى الآن، إضافة للركاكة في الأسس التي تم عليها اختيار بعض الوزراء، الأمر الذي ظهر واضحًا في اختيار وزيرة التربية شيماء الحيالي التي اضطرت أن تقدم استقالتها بسرعة تحت ضغطٍ شعبي لارتباط أحد افراد عائلتها مع تنظيم داعش الإرهابي الذي تبرأت منه، ونتيجة لضعف وتردد رئيس الوزراء ظلّت أربع وزارات مهمة شاغرة بدون وزير، وهي الداخلية والدفاع والعدل والتربية، على الرغم من مضي سبعة أشهر على تكليف عادل عبد المهدي لتشكيل الحكومة.
تواصل مسلسل ضعف عبد المهدي حتى وصل الحال لفقدانه الإرادة في اختيار مدير مكتبه، حيث قام بتعيين محمد الهاشمي الملقب بـ "أبو جهاد الهاشمي" القيادي في المجلس الأعلى والمقرب من إيران وبتوافقٍ مسبق مع كتلة "الفتح" مديرًا لمكتبه، وأيضًا بتوافقٍ مسبق مع قائمة سائرون عيّن رئيس الوزراء حميد الغزي لمنصب الأمين العام لمجلس الوزراء الذي كان رئيسًا للبرلمان المحلي في محافظة ذي قار والمتهم شعبيًا بالفشل، وعلى هذا المنوال من الضعف سلّم عبد المهدي ملف إعمار البصرة لرئيس قائمة الفتح هادي العامري المتهم بالفشل وتمويع قضية ميناء الفاو الاستراتيجي عندما كان وزيرًا للنقل سابقًا، ولمن يسأل فبهذه الطريقة أصبح رئيس الوزراء لعبة تحركها خيوط الكبيرين الندّين المتخاصمين في كثيرٍ من القضايا: سائرون والفتح.
البصرة وعوائل كردستان!
وعلى سيرة البصرة المنكوبة، التي تحتاج لكثيرٍ من المشاريع، وبدل أن يخصص لها عبد المهدي الأموال الكافية من ميزانية 2019، دخل رئيس الوزراء في اتفاقٍ جديدٍ مع إقليم كردستان العراق يقضي بتسليم الإقليم 250 ألف برميل يوميًا إلى بغداد مقابل أن تدفع بغداد رواتب الإقليم، ورغم دخولنا الشهر الخامس من السنة المالية لم يسلم الإقليم إلى هذه اللحظة مللتر واحد من النفط إلى بغداد، بينما استمر عادل عبد المهدي بدفع رواتب الإقليم، من دون أن يعرف العراقيون الكرد أين تذهب أموال نفط إقليم كردستان، في الوقت الذي يقول فيه ساسة كرد معارضون إن أموال النفط تذهب إلى العوائل التي تحكم الإقليم.
اقرأ/ي أيضًا: الغزي أحدهم.. تصدير مسؤولين محليين من الجنوب إلى بغداد: هل نجحوا هناك؟
العوائل التي يجاملها عادل عبد المهدي على حساب البصرة وعلى حساب سيادة العراق ووحدة أراضيه؛ آخر هذه المجاملات السياسية، كانت قبل أشهر، حيث أمر عادل عبد المهدي بانسحاب قوات جهاز مكافحة الإرهاب من كركوك تمهيدًا لاتفاق جديد مع هذه العوائل يقضي بإدارة أمنية مشتركة.
إنجازات للحكومة السابقة!
فتح عادل عبد المهدي المنطقة الخضراء المحصنة جزئيًا أمام المواطنين، وقام برفع الكتل الكونكريتية التي شوهت شوارع بغداد منذ أيام الاحتلال الأمريكي، نتيجةً للاستقرار الأمني الملحوظ، وأمر بفتح العديد من الشوارع المغلقة منذ 2003 تخفيفًا للازدحام المروري، وفي سياق مختلف، انفتحت الدبلوماسية العراقية على دول الجوار والعالم، لكن كل هذا هو نتاجٌ إنجازاتٍ ماضية أحرزتها الحكومة السابقة على المستوى الأمني والمستوى الدولي، فجاءت كتحصيل حاصل.
المجلس الأعلى للفساد
شكّل عبد المهدي المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، الذي استبشر فيه بعض العراقيين خيرًا، لكن المتابع يعرف أن أساسات التقاسم والتحاصص هذه وعدم وجود معارضة حقيقية للطرف الذي يشكل الحكومة سوف تبني أعرافًا خاطئة، لن تعطي القوة لرئيس الوزراء ليكون حازمًا وشجاعًا وقويًا كما تم تسويق عبد المهدي عند تخويله كرئيسٍ للوزراء، وقد ثبت ذلك في النتائج التي تمخضت من تأسيس هذا المجلس والتي تساوي صفر حتى الآن، بل الأندى من ذلك، أظهرت وثيقة نُشرت في وسائل التواصل الاجتماعي بداية أيار/مايو الحالي، قرارًا من المجلس الأعلى لمكافحة الفساد يهدد بمعاقبة الذين يتهمون المسؤولين بالفساد ولا يقدمون أدلةً على هذا الفساد، رغم أن العراقيين يعرفون جيدًا إن ميزانيات العراق قد تم نهبها نهبًا من قبل الحيتان وسُلمت ثلاث محافظات لتنظيمات إرهابية بسهولة بدون أن يدان أي حوتٍ أو قائدٍ عسكري بأي دليل يُودعه السجن.
برلمان لا يعرف أولوياته
وعلى صعيد عمل البرلمان، ورغم مرور سنةٍ على الانتخابات، إلا أنه لم يصوت إلا على ثلاةث قوانين فقط، بينما ظلت عشرات القوانين تراوح مكانها في القراءات الأولى والثانية لها، وظلت الخلافات قائمة حتى اللحظة على اللجان البرلمانية الفرعية، إضافة لتصويت البرلمان على مجموعة من القرارات غير المهمة كان أبرزها لفتًا للانتباه والسخرية من قبل الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي هو حظر لعبة إلكترونية بسبب تهديدها للمجتمع العراقي على حد قول البرلمان!
تركت الأحزاب السياسية قوانين مهمة في رفوف البرلمان كقانون التقاعد وقانون سلم الرواتب وقانون هيئة الطاقة الذرية، وقرارات وقوانين تخص "الحوكمة الإلكترونية" التي يعول عليها في إنهاء كثيرٍ من الفساد وكذلك ترك الكثير من القوانين الاستراتيجية الأخرى، وقضت مجمل وقتها في التصويت على أمور لا تشتبك مع جذور الأزمة العراقية، فلا قائمة الفتح التي وصلت للبرلمان تحت دعاية صور شهداء حرب داعش اقترحت قوانين تنفع يتامى الشهداء وتضمن لهم مستقبلًا أفضل وتعليمًا أجدى ونظامًا صحيًا أكثر أمانًا، ولا قائمة سائرون التي رفعت راية الإصلاح قدمت أداءً يرضي على الأقل ناخبيها وجمهورها الانتخابي.
من المهم أن يعي قادة سائرون والفتح أن الفشل القادم سوف لن يكون يتيمًا، بل سيعرف الناس جيدًا من أتى بعادل عبد المهدي الضعيف بالأصل، ومن أضعفه لهذا الحد!
هذه البيئة التي خيبت آمال التغيير المنشود الذي حدث قبل سنة من الآن، والتي خلقها محورا الفتح وسائرون، بيئة التحاصص والتقاسم للمناصب الحكومية بشكل جديد، البيئة التي يترك فيها الطرفان خيار اليمين أو اليسار والخوض في أنصاف الحلول، البيئة التي لا يعي أحد فيها أهمية المعارضة، هي بيئة سوف لن تنتج سوى هذا الفشل المعتاد، الفشل الذي يسرق أعمارنا نحن الشباب رويدًا رويدًا... من المهم أن يعي سائرون ومن خلفهم قيادة التيار الصدري المتمثلة بمقتدى الصدر وباعتبارهم القائمة الأكبر والأكثر قدرة على تحريك الشارع، وأيضًا قائمة الفتح بقيادة هادي العامري، أن هذا الفشل القادم سوف لن يكون يتيمًا، بل سيعرف الناس جيدًا، من أتى بعادل عبد المهدي الضعيف، ومن هو أضعفه لهذا الحد، ومن ضيّع الفرصة لبناء حياة سياسيةٍ صحيّة تنعكس على التنمية في هذا البلد.
اقرأ/ي أيضًا: