26-أبريل-2019

لا رقص ولا غناء في قرى الغجر بسبب الانشغال بتوفير لقمة العيش التي لا تتوفر دائمًا (المونيتور)

في عراق ما بعد 2003 وسياق التعامل مع شريحة الغجر، يمكنك أن تسمع عن مئات العوائل الغجرية وهي تنفى داخل العراق ولا يعترف بها كعوائل بالإمكان النظر لها كجزء من الأسرة العراقية، فضلًا عن تعامل المؤسسات الدينية مع تهميش وإقصاء من المجتمع والحكومة وسط انعدام الموعظة الدينية بشأن التعايش معهم على أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات مع الآخرين.

تضم قرية الزهور نحو 100 عائلة غجرية، وهي شاهد حي على المأساة ببيوتها الطينية وغياب المياه والكهرباء، بالإضافة إلى انعدام المؤسسات الصحية والتعليمية والخدمية

ينطلق المجتمع في نظرته إليهم من فهم مغلوط لـ"الحكم الشرعي" الخاص بالتعامل معهم، فيما ساعد تناثرهم في أطراف المدن ومحاولتهم للتخفي على عدم المطالبة بحقوقهم بشكل واضح، لكن قرية الزهور 20 كيلومترًا جنوبي شرق مركز محافظة الديوانية، تضم نحو مئة عائلة، باتت شاهدًا حيًا على مأساتهم، بيوت طينية بلا شوارع ولا ماء ولا كهرباء، بالإضافة إلى غياب المؤسسات الصحية والتعليمية، وهي حياة بدائية حرفيًا.

اقرأ/ي أيضًا: الصدريون بين الغجر.. صلاة جمعة على منبر "المواطنة"!

يصل الأمر في إقصاء الغجر إلى محاربة شبابها من قبل سكان المدينة ولا يسمح لهم العمل بأي شكل من الأشكال في الاندماج مع مجتمع المدينة، فضلًا عن تمييزهم في الأوراق الثبوتية بـ"الغجر"، لكن بصيص الأمل عاد إليهم بعد إطلاق نواب من كتلة سائرون البرلمانية حملة "حق إنسان"، والتي تمخض عنها رفع التمييز في الأوراق الثبوتية بعد منحهم البطاقة الوطنية، بالإضافة إلى وضع خطة لتوفير باقي احتياجات القرية.  

وغجر العراق أو "الكاولية" كما يُسمون، اضطروا في السنوات التي أعقبت الغزو الأمريكي في 2003 لممارسة التسوّل بعدما منعوا من مزاولة الرقص والغناء، وهي حرفتهم التي عرفوا بها وتوارثوها عن أجدادهم، وقد ساءت أحوالهم واضطروا للتشتت بين المحافظات الجنوبية، فيما سقطت العديد من نسائهم ضحية لسماسرة تجارة الجنس، وكانت السلطات قبل 2003 تسمح للغجر بممارسة الرقص والغناء في أحيائهم المنعزلة عن مراكز المدن، فضلًا عن التنقل لإحياء حفلات الأعراس والمناسبات الاجتماعية الأخرى.

يضطر أبناء الغجر لممارسة التسوّل بسبب عدم تقبلهم في أي عمل حكومي أو خاص بالعراق 

التمييز الحكومي

وفقًا للأوراق الثبوتية للغجر فإنهم عراقيون، ويمارسون حق الانتخاب، لكن لا يُسمح لهم أبدًا بالتقديم على أي وظيفة في الدولة، حتى الوظائف البسيطة كعامل خدمة أو حارس ليلي بسبب عبارة تمييزية ختمت بها شهادة الجنسية التي يحملونها، بينما استبدلت بعد 2003 كلمة "غجري" في شهادة الجنسية العراقية التي تحدد هويتهم كأقلية عراقية بمفردة "استثناء"، والأخيرة التي تختم على شهادة جنسية الغجر تم استحداثها بعد عام 2003 بعد تغيير قانون الأحوال الشخصية، واعتبار العراقي من ولد لأبوين عراقيين.
في السياق، يقول حسام جبار أحد سكنة قرية الزهور، إن "تمييزنا الواضح في الأوراق الثبوتية مثّل حجر عثرة في محاولاتنا للاندماج مع المجتمع والعمل في القطاع الحكومي أو الخاص، خاصة وأن أعداد الشباب مرتفعة في القرية لكنهم من دون عمل"، مشيرًا في حديثه لـ"ألترا عراق" إلى أن "القرار الأخير من وزارة الداخلية بمنحهم البطاقة دون تمييز أعاد الأمل إلى أهالي القرية، خاصة وأن هذا التمييز يمنعنا من التطوع في القوات الأمنية لأنه يبوّب في باب "الإخلال بالشرف".

جدل شرعي

إن حجر الزاوية في النبذ المجتمعي تجاه الغجر هو الضبابية والتطرف في الحكم الشرعي، حيث حكم بعض الفقهاء بحرمة إلقاء أو رد السلام عليهم، فيما يفتي البعض الآخر بحرمة التعامل معهم إلا بقدر حفظ النفس من الوقوع بالمحرمات، بينما يعتبر المرجع الديني الشيعي، محمد محمد صادق الصدر أول من التفت إليهم في أواخر التسعينيات، حيث شكّل لجنة من رجال الحوزة لدراسة موضوعهم وخصص لهم خطبة من خطبه الـ45 آنذاك، ودعا من خلالها إلى تقبلهم في المجتمع والتعامل معهم بشكل طبيعي.

أطفال غجر يهيمون على وجوههم فلا مدارس تعلمهم ولا دولة ترعاهم (الجزيرة)

إزاء ذلك، يقول أستاذ الحوزة العلمية محسن العوادي إن "الشرع لا يمانع كونهم بشر لهم حقوق وعليهم واجبات كمجتمع بشري يعيشون في الوطن، حتى وإن كان الحكم إسلامي واقعًا، خاصة وأن الدستور لا يفرض تطبيق الحكم الإسلامي، لافتًا إلى أن "بقاء الشرع مجرد مُشرع وليس مسيطرًا، ما يعني أن المجال يكون أوسع من ناحيتهم كمواطنين لا يفرقون عن أي آخر بشيء،  سوى عاداتهم وبعض تصرفاتهم التي تكون منبوذة شرعيًا وعرفيًا لدى المجتمع".

أضاف العوادي في حديثه لـ"ألترا عراق" أن "الشرع لا يجيز إقصاءهم وظلمهم بأي حق من الحقوق سواء كان حق التعليم أو العمل الوظيفي أو الحر إطلاقًا، مبينًا أن "الأعم الأغلب من المراجع والعلماء لم يُفتِ بحرمة التعامل معهم، إلا بقدر حفظ النفس من الوقوع بالمحرمات ما يعني إذا كان التعامل معهم لا يؤدي لوقوع محرم معين لا إشكال فيه"، لافتًا إلى "وجود آراء متشددة تحكم بحرمة إلقاء أو رد السلام عليهم".

أشار العوادي إلى وجود روايات إسلامية تقول إنه "كان في الأزقة القريبة من سكن أئمة أهل البيت بيوت للدعارة والمنكر"، متساءلًا "ألم يمتلك الأئمة أصحابًا يستطيعون التعدي ومنع تلك البيوت أو غلقها؟"، متابعًا "لا يوجد نص واضح يبيح الاعتداء على الناس بسبب تصرفاتهم حتى وأن كانت مخالفة للدين والشرع والأخلاق مالم يكن فيها خطر فادح على أرواح الناس".

أستاذ في الحوزة العلمية: الشرع لا يجيز إقصاء الغجر وظلمهم بأي حق من الحقوق سواء كان حق التعليم أو العمل الوظيفي أو الحر إطلاقًا، والأعم الأغلب من المراجع والعلماء لم يُفتِ بحرمة التعامل معهم

لفت العوادي إلى أن "هناك حكم شرعي يحرم الزواج من الكافرة والكتابية إلا بعد إسلامها، فيما يجيز الزواج من الغجرية ما لم تكون مشهورة شخصيًا لدى المجتمع بالزنا، أما كون شهرتها غجرية لا يضر، والآية القرآنية تخاطب النبي، خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين".

ومضى العوادي بالقول، إن "المبادرات الأخيرة من قبل رجال دين لإقامة صلاة الجمعة في القرية وبالمشاركة مع أهل القرية نقلة نوعية، وساعدت على التعريف بهم خاصة للأجيال التي خضعت للتجهيل الممنهج".

صلاة الجمعة في شباط/فبراير في قرية الزهور التي يقطنها الغجر

حملات إنسانية

بالرغم من وجود العشرات من منظمات المجتمع المدني، إلا أن أحدًا لم يجرؤ على تنظيم حملات إغاثة لقرية الزهور، سواء كانت بتقديم الحاجات الأساسية أو على مستوى الزيارة وتفقدهم لأنها كثير ما تواجه بالمنع والتهديد، بحسب ناشطين.

في الأثناء أطلقت النائبة في البرلمان العراقي أنعام الخزاعي مع نواب وناشطين حملة "حق إنسان"، هدفها الوقوف على حاجات أهل القرية ومحاولة مساعدتهم.

قالت الخزاعي إن "قرية الزهور يسكنها قرابة 100 عائلة من الغجر، ولا يحظون بأبسط مقومات الحياة الأساسية ومنها الصحة والتعليم، لأنهم أساسًا يسكنون مناطق عشوائية غير رسمية، وبالتالي هم خارج التخطيط العمراني للمدن".

أضافت الخزاعي في حديثها لـ"ألترا عراق"، أنه "أطلقت مع النائب محمد الغزي حملة "حق إنسان"، ومن داخل بيت من بيوتات قرية الزهور، وكانت تهدف إلى منح سكان القرية الوثائق الرسمية دون إشارات تمييزية لأنهم مواطنون عراقيون ويريدون المساهمة ببناء الوطن"، لافتة إلى أن "وزارة الداخلية استجابت لهذه الحملة، حيث سارعوا لمنحهم البطاقة الوطنية دون إشارات تمييزية، فضلًا عن تحركنا باتجاه ضم مدرستهم ضمن مشروع الصدر التعليمي ودعمنا التلاميذ بالقرطاسية والكتب والزي الموحد وبعض المستلزمات الأخرى".

القرار الأخير من وزارة الداخلية بمنح الغجر البطاقة الوطنية دون تمييز أعاد الأمل إليهم، خاصة وأن التمييز السابق يمنعهم من التطوّع في القوات الأمنية لأنه يبوّب في باب "الإخلال بالشرف"

استدركت الخزاعي "لكن تبقى خطط تطوير القرية طويلة لكنها ليست مستحيلة، خاصة وأننا وجدنا تجاوبًا حقيقيًا من المؤسسات المحلية التي ستقدم ما بوسعها لأبناء القرية"، مشيرة إلى "وجود قرى أخرى تسكنها مجاميع من الغجر، ولدينا فريق دعم متخصص لجمع المعلومات ووضع الخطط والآليات المناسبة والفعالة لرفع الحيف عنهم ولو جزئيًا".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الغجر في العراق.. الصعود إلى الهاوية

وثائق: قرار استثنائي بشأن الغجر والقرج خلافًا للقانون العراقي