14-مايو-2019

لم يحقق عبد المهدي حتى الآن إنجازات في ضرب الفساد وجذوره بالنظام (فيسبوك)

لم تكن جملة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي "استقالتي في جيبي"، صك براءة من الفشل الحاصل سابقًا ولا لاحقًا، فربما يكون الفشل عن طريق الفساد الذي يدّعي عبد المهدي ابتعاده عنه، مستندًا إلى جملته المذكورة آنفًا، أو عن طريق التقصير والعمل دون رؤية واضحة للتحديات التي يمر بها العراق، وربما هذه العوامل الأخيرة لا تقل فتكًا بالدولة عن الفساد أو أخطر منه. مر أكثر من ستّة شهور على تسنم عبد المهدي لرئاسة وزراء العراق، لم يبد الرجل أي خطوة جدية للقضاء على الفساد إلا تشكيل مجلس مكافحة الفساد الذي يطالب الناس بتقديم أدلة على الفساد! وفي هذه الأشهر حاولنا أن نتابع أهم ما قام به عبد المهدي داخليًا وخارجيًا منذ تسلّمه الرئاسة وإلى الآن.

المناصب بالوكالة.. أزمة الدولة الحقيقية

اتخذ الفساد في العراق أشكالًا لا يمكن تخيلها، فتراه متغلغلًا في مؤسسات الدولة، الصغيرة والكبيرة منها، و من أبرز أشكال الفساد ملف "المناصب بالوكالة" حيث يوجد في الدولة العراقية ما يزيد عن 5000 آلاف منصب يدار بالوكالة، ومن ضمنها مناصب حساسة جدًا كمدراء عامين ووكلاء ووزراء ومستشارين وسفراء ورؤساء جامعات. هذه المناصب التي تُكرس حكم العوائل الذي بات واضحًا وجليًا، فترى الأقرباء والمقربين لبعض الساسة ينغمسون في عمق الدولة العراقية من دون أدنى استحقاق إلا لكونهم أقرباء من الأحزاب المتحاصصة، حتى دأبت بعض الكتل السياسية إلى ترك المناصب الرئيسية كالحقائب الوزارية والذهاب باتجاه المناصب التي تدار في الوكالة، حيث تعتبر هذه المناصب هي الدولة وهي القرار السياسي بشكل شبه كامل.

 دأبت بعض الكتل السياسية إلى ترك المناصب الرئيسية كالحقائب الوزارية والذهاب باتجاه المناصب التي تدار بالوكالة، حيث تعتبر هذه المناصب هي الدولة وهي القرار السياسي!

 إن الصراع على هذه المناصب قد احتدم في الأشهر الأخيرة بين الكتل السياسية. بعد تولي عادل عبد المهدي رئاسة الوزراء في ٢ تشرين الأول/أكتوبر والذي وعد بفتح هذا الملف الذي يعد من أخطر الملفات التي تربك بناء الدولة، لكن مرت أكثر من ستة أشهر ولا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل.

 رواتب كردستان وعطش البصرة!

لم يكن حيدر العبادي رئيس الوزراء السابق حازمًا بالقضاء على الفساد كما كان المرجو منه، لكنه كان حازمًا بتعامله مع ملف إقليم كردستان، حيث أعاد العبادي أغلب زمام الأمور التي تربط المركز والإقليم بيد بغداد، واعتقد أنه نجح بهذا الملف نجاحًا جيدًا. لكنه تعامل باللامسؤولية واللامبالاة مع ملف البصرة التي كانت تتضور جوًعا وتموت عطشًا، حيث حاول قمع الاحتجاجات وتسويف مطالب الناس، ولعل البصرة هي النقطة الفارقة التي أزاحته عن تسلم رئاسة الوزراء للدورة الثانية.

اقرأ/ي أيضًا: بين "سائرون" و "الفتح".. القصة الكاملة لصفقة المناصب السيادية وغيرها!

 أما خلفه عادل عبد المهدي أرجع ملف كردستان إلى الدائرة الأولى، حيث قرر الأخير تسليم رواتب الإقليم من دون تسليم واردات النفط للحكومة الاتحادية، بموجب قانون الموازنة الاتحادية العامة، وكذلك عدم تسليم واردات المنافذ الحدودية، إضافة إلى أنه ذهب بزيادة حصة الإقليم في قانون موازنة 2019. وبهذا فقد تجاوز عبد المهدي على النصوص والشروط والاتفاقيات التي وضعها رئيس الوزراء السابق بشأن العلاقة مع كردستان بعد فشل استفتاء الانفصال.

أمام تعامله مع الكرد، لم يكن عبد المهدي جادًا بحل الأزمات التي تعج بالبصرة وباقي المحافظات الجنوبية، مما دفع أبناء الجنوب للشعور بالغبن فتجلى برفع الأصوات الداعية إلى "الأقلمة" في البصرة وغيرها من المحافظات كردود فعل على تمييز الحكومة بينهم وبين محافظات الشمال، أو أنهم يقارنون بالأصل فينظرون للفرق وتتولد هذه المشاعر الخطيرة على الهوية الوطنية والتضامن الوطني.

فتح الخضراء أو ملفات الفساد؟!

المحتجون العراقيون ذهلوا بالحياة الموجودة في المنطقة الخضراء وسط بغداد بعد اقتحامهم لها في احتجاجات الثلاثين من شهر نيسان/أبريل عام 2016. هذه المنطقة التي تحولت بفضل سلطات الاحتلال بعد 2003 إلى منطقة معزولة تمامًا عن الحياة العراقية ماديًا ومعنويًا، فترى الكتل الكونكريتية الضخمة تعزلها عن الحياة الخارجية، الأسلاك الشائكة وكلاب التفتيش تحيط بها من كل حدبٍ وصوب. بعد دخول الخضراء مباشرةً سوف تعرف حجم الهوّة بين المواطن العراقي والمسؤول، ففي الأحياء البغدادية لا توجد أدنى مقوّمات للحياة الطبيعية التي يعيشها البشر، أما في الحي الذي يسكنه الساسة "الخضراء" تتوفر جميع سُبل الراحة وكأنك في دولة مرفهة جدًا، الأمر يرجع إلى الفساد بالطبع، وعدم الشعور بالمسؤولية إزاء المواطن في كل مكان.

أمر عبد المهدي في كانون الأول/ديسمبر بفتح المنطقة الخضراء بشكل جزئي أمام حركة المرور بعد إغلاقها 15 عامًا. وأحدث هذا الأمر ضجة إعلامية وتهليلًا وتبريكًا بوسائل الإعلام التابعة للحكومة، حتى وصل الأمر إلى عده إنجازًا، لك أن تتخيل أيها القارئ العزيز بأن فتح حي بغدادي أمام حركة المرور يُعتبر انجازًا. وبعد فتح الخضراء أمام الناس جزئيًا انتظرنا من عبد المهدي فتح ملفٍ واحدٍ بشكل جدي وواضح من ملفات الفساد التي لا تُعد ولا تُحصى في هذا البلد المُنهك، نحن نسمع الوعود بفتح ملفات الفساد، لكن لا نرى شيئًا على أرض الواقع، الأمر الذي سيؤدي إلى عدم التصديق بأي خطوة تقوم بها الدولة في هذا الإطار.

 تحوّل شعار "مكافحة الفساد" إلى شيء يشبه شعارات "الحرب على الإرهاب"، و"عملية السلام"، وغيرها من التعابير التي لا تحمل أي معنى، واستُنزفت دلالتها وتجوّف معناها

 تحوّل شعار "مكافحة الفساد"، إلى شيء يشبه شعارات "الحرب على الإرهاب"، و "عملية السلام"، وغيرها من التعابير التي لا تحمل أي معنى مع تكرارها، إلى أن استُنزفت دلالتها وتجوّف معناها، وصارت عموميات محَـنّطة تليق بمتحف شمع وليس بسجال سياسي حيّ. عندما يكون مفهومٌ ما محلّ إجماع الجميع، فإن الإشارة إليه تفقد معناها. أعتى المنخرطين بالفساد وأشد المناوئين له كلاهما يهاجمان الفساد، ويدعوان إلى مكافحته. لا توجد سلطة قائمة ولا حتى زائلة في هذا البلد، لم تثقب أُذُن الحائط وهي تتوعد الفساد والمفسدين، حيث صار الفساد وياللمفاجأة، عدو الفاسدين!

اقرأ/ي أيضًا: عبد المهدي والكرد.. "صداقة" قديمة و"تفريط" قد يؤدي إلى حرب!

عبد المهدي والعقوبات.. بين تبعية إيران وسطوة أمريكا

إلى الآن لم يظهر الرجل بموقفٍ واضح بخصوص العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، فتارةً يقول إن "العراق لن يكون جزءًا من منظومة العقوبات الأمريكية ضد إيران"، ومرةً أخرى يوجه السلطات المالية بشأن العقوبات الأمريكية على إيران ليشدد على ضرورة الالتزام بالمواثيق الموقعة مع الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي في هذا الشأن.

مُنذ تسعينيات القرن المنصرم وبعد تدمير أغلب الإمكانيات الاقتصادية العراقية من قبل أمريكا عبر قصفها المتعمد على هذه المرافق بعد حرب الكويت، والعراق لا يمكنه سد حاجته من الطاقة وباقي الأمور بصورة كافية، فتراه يستورد الغاز الإيراني والذي يمثل "4000 ميغا واط" من الطاقة الكهربائية العراقية، وتعتمد أيضًا شركات الطاقة والبناء والسيارات بشكل كبير على الواردات الإيرانية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعد أمريكا بعقوبات صارمة لكل من يخرق العقوبات الأميركية، لكن بعد زيارة وزير الخارجية الأمريكي بومبيو في 8 أيار/مايو إلى العراق أشارت مصادر مطلعة بأنه جرى اتفاق بين بومبيو ورئيس الجمهورية برهم صالح على تمديد الاستثناء المعطى إلى العراق سلفًا بخصوص التعامل مع إيران أثناء العقوبات المفروضة. وفي ظل عدم وجود رؤية سياسية واقتصادية واضحة يصعب أن يقف العراق كدولة في هذا الصراع ويتخذ موقفه المستقل، أنه نظام ينخره الفساد والتقاسم الطائفي ولا يمكن أن يكون قويًا بين الدول نظرًا لهذه المشاكل التي يعاني منها.

إيران وتأكيد الهيمنة على الاقتصاد العراقي

لم تكن زيارة حسن روحاني في أذار/مارس إلى العراق إلا لتوصيل رسالة مفادها؛ أن العراق متنفسنا الاقتصادي رغم العقوبات. زار روحاني المرجع الأعلى للطائفة الشيعية السيد السيستاني والتقى فيه، أيضًا المرجع بشير النجفي وإسحاق الفياض ومحمد سعيد الحكيم. هذا يأتي في سياق تأكيدي على القبول الديني الذي من الممكن أن يفتح لروحاني أفق واسعة من المقبولية حتى داخل إيران نفسها.

يبدو أن زيارة رئيس الجمهورية الإسلامية إلى العراق أتت بأكلها سريعًا، حيث كشف محافظ البنك المركزي الإيراني، عبد الناصر همتي، والذي يرافق الوفد الرئاسي في الزيارة للعراق، بأن طهران استلمت الدفعة الأولى من ديونها قبل تجهيز العراق بالطاقة والبالغة نحو200 ميلون دولار. ويؤكد همتي بعد لقاءه مع نظيره العراقي بالوكالة علي العلاق على أنه بحث معه التوافقات التي كانت جرت بينهما في آذار/مارس، ومنها ملف تسديد الديون، مشيرًا إلى أنهما تطرقا خلال اللقاء إلى قضايا مالية أخرى كتسهيل الشؤون المصرفية لمصدري السلع الإيرانية إلى العراق، فيما بحث أيضًا عمل فروع المصارف الإيرانية في العراق، إلى جانب ضرورة قبول التأمينات من المقاولين الإيرانيين العاملين في العراق بالدينار العراقي بدلًا من الدولار.

في لقاء عبد المهدي وروحاني لم تفتح قضايا انتهاك السيادة العراقية من قبل إيران، ولا ملف تهريب المخدرات إلى داخل العراق وقطع وتغيير مسار الأنهار الحدودية 

أيضًا وافق العراق على جعل "الفيزا" بين البلدين مجانية ابتداءً من نيسان/أبريل، وبكل تأكيد فأن المستفيد من هذه الخطوة هو الجانب الإيراني كون عدد زواره إلى العراق يفوق بأضعاف الزوار العراقيين إلى إيران، لكثرة المراقد المقدسة عندنا وقلتها عندهم. فيما لم يتطرق الجانب العراقي للقضايا التي تهم البلد، لم تفتح قضايا انتهاك السيادة العراقية من قبل الدولة الجارة، ولا ملف تهريب المخدرات إلى داخل العراق وقطع وتغيير مسار الأنهار الحدودية وغيرها من الأمور المهمة.  ما هذا إلا دليل على ضعف الدبلوماسية في هذه الحكومة التي لا تمثل أي شكل من أشكال الدولة ومصالحها، بل موظفين يعملون بأجور شهرية ويغنمون أموالًا لا تعد ولا تُحصى عن طريق تقاسم ثروات الدولة والحفاظ على المناصب.

غموض الاتفاق الاقتصادي مع الأردن و"الخوف" منه!

ما زال رئيس الوزراء الحالي غامض بقراراته التي تُنذر بعواقب كارثية ستحل بالدولة العراقية. حيث وقع العراق في شباط/فبراير اتفاقية تجارية مع الأردن تتضمن مدّ أنبوب نفطي من البصرة إلى ميناء العقبة الأردني بكلفة 18 مليار دولار وبطول 1700 كيلو مترًا، أي بمعدل 10.5 مليون دولار للكيلومتر الواحد، لكن لو تساءلنا عن الجدوى الاقتصادية لهذا الأنبوب؛ فإذا كان الهدف منه هو تصدير النفط إلى دول آسيا، فالبصرة أقرب إلى آسيا من العقبة الأردنية، وإن كان الهدف منه هو التصدير إلى دول أوروبا وأمريكا، فالأجدى اقتصاديا وتوفيرًا للوقت ورسوم المرور، أن يقع منفذ التصدير في شمال قناة السويس "أي على سواحل تركيا أو سوريا أو لبنان"، وليس في العقبة جنوب قناة السويس. ومع هذه الاتفاقات تصدرت الإعفاءات الجمركية والنفط الخام بسعر رمزي "10 آلاف برميل"، واستيراد الكهرباء. 

اقرأ/ي أيضًا: ما هي أضرار زيارة روحاني على الاقتصاد العراقي؟

لم تنقطع هدايا عادل عبد المهدي للدولة الجارة، فتصدرت الإعفاءات الجمركية والنفط الخام بسعر رمزي "10 آلاف برميل"، واستيراد الكهرباء. فيما كانت الصفقة الأكثر ضبابية هي التوقيع على اتفاقية طريبيل، هذه المنطقة التجارية الصحراوية، بينما تزامن مع هذه الاتفاقية إعلان "إسرائيل" الانتهاء من بناء جسر تجاري ضخم بينها وبين الأردن، وإنشاء منطقة تجارية صناعية على نحو 700 دونم، في حين خصص الكيان الصهيوني 250 دونمًا، وهذا الأمر يثير الريبة والشك فيما يخص دخول العراق نحو "صفقة القرن" لدى كل متابع للشأن العام.

عبد المهدي، الرئيس الذي توافقت عليه جميع الكتل بلحظة ومن الممكن أن يتخلى عنه الجميع بلحظة، لم يقدم أو يشتبك مع جذور أزماتنا العراقية العميقة، الأزمات التي تواجه العراق في مساره لبناء الدولة تحتاج إلى نخبة سياسية فذة، نخبة تفكر أن تجعل العراق في مصاف الدول المتقدمة لا أن تدمر وتقتل أي مفهوم من الممكن أن يصب في صالح الدولة العراقية لأجل الحفاظ على السلطة والنفوذ و"الفساد".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

من المالكي إلى عبد المهدي.. قصة الـ100 يوم المكرّرة!

المرجعية وتكليف عبد المهدي.. أين الحقيقة؟