05-مايو-2019

بتم توجيه النقد للمجتمعات لإبعاد نظرهم عن جذور المشاكل وفساد السلطات (تويتر)

عندما تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي لرؤية أنماط التفكير وطريقة النظر على الحالات الاجتماعية والقضايا العامّة في العراق ستجد كميات كبيرة من جلد الذات تصدر من نوافذ إعلامية وصفحات متابعة كثيرة، كالقول "متصيرلنا چارة"، أي لا ينفع معنا أي إصلاح، وجمعٌ آخر يقول إن "الخلل بنا"، وبعضهم يرددون تبريرات من الموروث الديني ليكون لوم الناس خارجًا بإطار مقدس لا يشوبه الشك، مثلما جاء في المأثور "كما تكونوا يولّى عليكم"، حالة كهذه لا تقتصر على النظر لمن حكم العراق فيما بعد الاستبداد، إنما تكون عابرة للنقمة على "الديمقراطية"، والتعبير عن الحاجة إلى الاستبداد أو العسكر الذي سيضبط الإيقاع إن حل.

أصبح خطاب لوم المجتمع العراقي موجهًا من السياسيين والقادة والمراجع وهو محاولة خطيرة لتطبيع الناس مع الواقع المتراجع بدعوى أنهم السبب فيه!

تعوّدنا أن نسمع هذه التصوّرات من شرائح ناقمة على الوضع السياسي بعد غزو العراق ٢٠٠٣ بسبب ثقافة متجذرة منذ سنوات في المجتمع العراقي. لكن هذا الرفض السلبي كان أشبه بمرض العضال في جسد المجتمع، لأنه يُلقي اللوّم على المظلوم ويتناسى الظالم، يلوم الضحية ولا إراديًا بلومه هذا يتعاطف مع الجلاد وكأن "متلازمة ستوكهلوم" صارت هي القاعدة في أنماط تفكير بعض الناس ومن يسايرهم من ما يسمى بـ"النخب".

من المفارقات العجيبة أصبح هذا الخطاب موجهًا من السياسيين والقادة والمراجع إلى عامة الشعب، وهذا ما لم نعتد عليه من قبل، ففي الفترة الأخيرة بدأ صوت هذا الخطاب بالصعود تدريجيًا، وهو محاولة خطرة منهم للتطبيع مع الواقع المتراجع الذي يعيشه العراقيون منذ سنوات، وتأسيس ثقافة الخنوع والرضا بما تفعله أحزاب المحاصصة لأن "الخلل بنا" وليس بهم.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة "المفتعلة".. سيرك إقطاع العراق السياسي

في ١٢ نيسان/أبريل أطل علينا وكيل المرجع السيستاني في خطبة الجمعة من كربلاء ليحدثنا بـ"خطبة وعظية" عن استخدامنا لمواقع التواصل الاجتماعي، وكيف علينا أن نلتزم بالقواعد الدينية في الكتابة والنشر، والابتعاد عن السب والشتم. العراقيون في عادتهم ينتقدون السياسيين على "فيسبوك"، لأنه أصبح المنصة الإعلامية الوحيدة التي يثق بها العراقيون؛ كونها غير مسيطر عليها من قبل الساسة، بعكس المنصّات الإعلامية الأخرى كالوكالات الإخبارية والقنوات، لكن هذا الانتقاد وبحسب المرجعية ينبغي أن يحدّد بأطر معينة لأنه وصل إلى مرحلة "الشتم"، وفي الوقت الذي لم يجد الناس فيه مياه الشرب، تخرج لنا المرجعية بين جمعة وأخرى بوصايا لتنظيم ما يحدث في "فيسبوك".

 كان الأجدر بوكيل المرجعية أن يوجه خطبة وعظية للحكومة التي لم تضع خطة أمنية محكمة للحفاظ على أمن الموصل، حيث أظهرت وسائل الإعلام اليوم تجدد خلايا لتنظيم "داعش" في المحافظة. كان الأجدر به أن يوجه خطبته للحكومة التي لم تضع أي خطة متقنة لتوفير الطاقة الكهربائية مع قدوم صيف العراق اللاهب، لا للمواطنين الذين يعبرون عن غضبهم بالحديث الناقم عن الحياة العراقية التي أقل ما يقال عنها إنها حياة من الدرجة العاشرة.

ينضم في الوقت ذاته إلى المرجعية زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، المعروف بمواقفه الوطنية والمنحازة إلى الشعب في كل الظروف، والواقفة ضد الاصطفافات الطائفية، لكن على غير العادة يوجه السيد الصدر كمًا من النقد للشعب العراقي عبر تغريداته في "تويتر"، التي أطلق عليها مصطلح "الآفات"، والتي بدأ بها في ١٦ نيسان/أبريل، وتطرّق فيها لمواقع التواصل وللرشوة والغش في المدارس والمخدرات والألعاب الإلكترونية والعزوبية وعدم إيجاد فرص العمل والباعة المتجولين وغيرها من الأمور. ربما المساحة هنا كافية لطرح سؤالٍ وجيهٍ: يا ترى هل المواطن هو السبب في تفشي الرشوة؟ هل المواطن سبب في تفشي العزوبية وانتشار المخدرات وعدم إيجاد فرصة عمل؟ هل المواطن هو الراغب بعدم إيجاد عمل محترم لكي يعمل كبائع متجول تسلخ جلده الشمس في الصيف ويقرص بهِ البرد في الشتاء؟

 ينضم مقتدى الصدر إلى مرجعية السيستاني ويوجه كمًا من النقد للشعب العراقي عبر تغريداته في "تويتر"، والتي أطلق عليها "الآفات"

ونظرة سريعة للواقع العراقي ستجد شبابًا يحملون شهادات عليا وهم جالسون في بيوتهم لعدم قدرة الدولة على توفير فرص عمل لهم، هناك مئات الآلاف من حملة شهادات البكالوريوس يعملون في المقاهي والأسواق وكعمال بناء، حتى أنني أعرف شخصيًا شاب حامل شهادة البايولوجي من جامعة بغداد ينظف زجاج المقاهي بمبلغ "ثلاثة الاف دينار"، أي ما يعادل دولارين. فيما تبقى الآلية الوحيدة للحصول على وظيفة هي إعطاء الرشوة أو الانتماء لأحزاب المحاصصة أو الفصائل المسلحة، يا ترى من المُلام هنا؟ يدعو الصدر المواطنين لأنهاء هذه الآفة ولا يعير اهتمامًا للحقائب الوزارية والمناصب الرئاسية والدرجات الخاصة التي تُباع وتُشترى بين أمراء الطوائف والفساد في الحكومة العراقية، أم إن هذه الحالة لا تعتبر رشوة؟!

اقرأ/ي أيضًا: الصدر يواصل الحديث عن "الآفات": الأفلام الإباحية هذه المرة

كذلك الآفة التي تحدث بها الصدر عن "الغش في المدارس"، هذا الأمر الذي يفتك بالمنظومة التعليمية العراقية، يوجه الصدر فيها نقده تجاه الطلاب والطالبات ولا يوجه نقده لجذور الأزمة، ومنها وزارة التربية التي تُهرب الأسئلة الوزارية قبل الامتحان بساعات معينة مقابل آلاف الدولارات، يا ترى من المخطئ هنا، الحكومة أم المواطن؟ أيضًا يوجه الصدر بوصلة نقده للناس في آفته الرابعة عشر التي جاء فيها "ترك الأعمال الحرة كافة كالفلاحة والزراعة والصناعة والتجارة و....."إلخ. وكل مهتم بالشأن العام أو كل مواطن عادي يعرف أن القطاع الزراعي والصناعي والتجاري مستواه تحت الصفر بسبب الفساد الحكومي الحاصل في هذه القطاعات وتحالف بعض القوى مع الخارج لإدخال البضائع من دول الجوار. كان يجدر بالصدر أن يفتح ملف المبادرة الزراعية التي أطلقتها الحكومات السابقة والتي وصلت إلى أربعة ترليون دينار عراقي دون لمس أي تحسن في القطاع الزراعي، كذلك سيطرة إيران وتركيا وباقي الدول على السوق العراقية برمتها، بالطبع يترك الفلاح مهنته؛ لأن بضاعته غير مدعومة من الدولة، ولا تُصرف كما تُصرف البضائع الخارجية لرخص أسعارها، وكذلك يترك التاجر تجارته لعدم قدرته على منافسة البضائع الخارجية، هنا في العراق حتى مُعلّبات الأكل البسيطة غير عراقية!

والآفات التي يطلقها الصدر اختتمها بآفته العشرين التي تُعتبر من المضحكات المبكيات، ينقد الصدر فيها الباعة وأصحاب البسطات في الشوارع، هؤلاء الباعة الذين ربما يحصلون على قوت يومهم من خلال هذا العمل وربما لا، هذه الآفات منها الجيد والصحيح طبعًا، لكن كان من الأجدر أن توجه للحكومة لأنها المسؤول الأول عن هذا الخراب. وبالحقيقة أنا لا أعرف ما معنى أن يمتلك قائد سياسي وديني 54 مقعدًا نيابيًا ويجلس لينتقد المجتمع بدل أن يوجه انتقاده إلى الكتلة التي تبناها وعمل على فوزها في الانتخابات السابقة، والتي إلى الآن خيبت طموح كل شخص داعي لإصلاح النظام السياسي. طموحاتنا التي كان سقفها واطئًا بالأساس. يكفي بأن يطلع المهتم بالشأن العام على موقع تحالف سائرون ليرى الإنجازات العظيمة!

الأزمات كثيرة ومتفشية في المجتمع ولا يوجد مجتمع معصوم أساسًا، لكن هناك أولويات تبدأ من الإصلاح السياسي أهم من الألعاب الإلكترونية مثلًا، الأمور المتعلقة بالحكومة لا المجتمع، كعدم إكمال الكابينة الوزارية التي من المقرّر إكمالها قبل ستة أشهر أو محاسبة المتسببين بإهدار المال العام، ومن تسببوا بسقوط ثلث العراق بيد تنظيم "داعش"، أو حصر السلاح بيد الدولة، أو السيطرة على المنافذ الحدودية، أو إحياء القطاع الاقتصادي، أو فتح ملفات الفساد أو العمل على إنهاء المحاصصة وسيطرة من يعتقد نفسه أنه يمثل طائفة أو قومية ما.

وبالرجوع إلى قضية مواقع التواصل الاجتماعي التي تطرق لها السيستاني والصدر في الآونة الأخيرة، أعلن نائب رئيس البرلمان والتابع لتحالف سائرون المدعوم من الصدر "حسن الكعبي" في ٥ آذار/مارس عن نية البرلمان إقرار قانون "جرائم المعلوماتية"، هذا القانون الذي يحاول تكميم الأفواه وتوجيه العقوبة للمواطنين المحتجين على الأداء السياسي عبر مواد مطاطية يتضمنها هذا القانون. ولا أرى مصادفة في طرح السيستاني والصدر وكتلة سائرون موضوع السيطرة على التواصل الاجتماعي ومحاولة تنظيم النقد الذي بدأ يخرج عن هيمنة القوى السياسية في العراق.

منتقدو المجتمع يتناسون أن العراقيين يعيشون في فوضى سياسية وحروب عمرها 40 عامًا بالوقت الذي يغضون الطرف عن الإرث الاستبدادي الكبير وما بعده فوضى الاحتلال الأمريكي 

من وسط حفلة رمي اللوم على المجتمع العراقي فيما يحدث، خرجت علينا النائبة عن تحالف سائرون هيفاء الأمين لتطلق حكمها على سكّان الجنوب العراقي وتقول بإنهم متخلفون. هذه النائبة وغيرها يغضون البصر عن أسباب التخلف الذي ينعتون المجتمع به، إذ أن العراقيين يعيشون في فوضى سياسية وحروب عمرها 40 عامًا، بالوقت الذي يتناسون الإرث الاستبدادي الكبير الذي خلفه نظام صدام حسين، كذلك لا ينظرون إلى الحصار التي فرضته أميركا لأكثر من عقدٍ على العراق، ومن بعده الغزو الأمريكي الذي فتت المفتت وقسم المقسّم، يتركون خلف ظهورهم فشل الحكومات المتعاقبة وتراجعها في بناء دولة مؤسسات ديمقراطية وحقيقية، ومن ثم يأتون ويقولون: لم لا يكون الشعب في مصاف الشعوب المتقدمة؟ الشعوب التي ربما لم تمر في سمائها إطلاقة نارية خفيفة منذ 40 عامًا.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قصة الدولة في العراق: ذلك السؤال الغائب

ديمقراطية "الرعاة" في العراق!